الكلمات لم تعد تقاتل مع البنادق.. هل ابتعد الفنانون عن قضايا الأمة؟
زياد العاني/
في السابق كانت الثقافة والفن منخرطين في العمل السياسي، ولهما دور كبير في حل بعض القضايا السياسية من خلال تسليط الضوء عليها ثقافياً وفنياً وإعلامياً، وهذا ينطبق على العديد من القضايا السياسية حول العالم، ومنها ما يمس القضية الفلسطينية.
قائمة أسماء طويلة، منهم الفنان جواد سليم، والشاعر نزار قباني، والشاعر مظفر النواب، والفنان فائق حسن.. وغيرهم من الفنانين والأدباء الذين أنتجوا العديد من الأعمال الإبداعية السياسية، سواء أكانت رسماً او نحتاً او شعراً او رواية.. الى آخره.
اما الآن فالاهتمام الثقافي بالسؤال السياسي آخذ في الضمور، والثقافة تبدو أفقر سياسياً.. لكن كيف يمكن أن نفهم هذا التباعد، ولاسيما ما يمس القضية الفلسطينية.. هل يمكن للمثقف او الفنان أن يكون له دور حقيقي في ذلك ؟ سؤال طرحناه على بعض المثقفين والفنانين وكانت الإجابه كالآتي:
ملامسة الوجع
تحدث د. جواد الزيدي قائلاً: “كانت الثقافة بتعدد حقولها الإبداعية تعمل ضمن مفهوم المنطق (المجموعي) الذي تلتحم فيه الأجناس الإبداعية مع المقاربات الاجتماعية والسياسية، بفعل منتجي الثقافة وتوجهاتهم الحقيقية المقترنة في جزء كبير منها بالثقافة الوطنية أو مماثلة لوظائف (المثقف العضوي). ولذلك لم يكن الرسام والنحات والشاعر والمسرحي سابقاً بعيداً عن التطلعات السياسية بفعلها الثوري، إذ انتظم الكثير منهم في حركات التحرر العالمية وفي مقدمتها فلسطين، واستطاعوا من جهة أُخرى ملامسة هذا الوجع الإنساني الذي تحياه تلك الشعوب، فكانت القصائد واللوحات تقاتل مع البندقية، وقد تتجاوزها، إذ ما زالت أصوات محمود درويش، ومظفر النواب، وسميح القاسم، ومارسيل خليفة مدوية. واستلهم الفنان العربي رسماً ونحتاً وكاريكاتيراً هذا الصراع الوجودي، حيث انتهت حياة ناجي العلي برصاصة وملاحقة الآخرين، كما عبرت أعمال النحات الكويتي (سامي محمد) والفلسطيني (سليمان منصور) والعراقيين (محمود صبري، ومحمد مهر الدين، وفيصل لعيبي، وشاكر حسن آل سعيد) عن جوهر القضية ولامست أعمالهم الجرح الفلسطيني.. أما الآن فإن الظروف الموضوعية المحيطة بالقضية على مستوى الأنظمة العربية، أو على صعيد جوهر القضية ومتبنيات الدفاع للقوى الراديكالية الدينية المتطرفة وانحسار القوى الوطنية جرى تحويلها من قضية يدافع عنها العالم كله، الى منظمة يتهمها العالم بالإرهاب، كما حدث في الأحداث الأخيرة، وعلى الرغم من بعض المتضامنين من حكومات وأفراد وفنانين وشعراء، لم نر ما يوازي الفعل السابق من مناصرة ودعم لهذا النضال.”
التفكير والانحياز
أما الفنان التشكيلي د. محمود شبر فقال: “دعني أعود الى الوراء كثيراً، في تسعينيات القرن الماضي وما سبقها كان الوضع مختلف تماماً، اذ ان مهيمنات ما يسمى بـ (الحرب الباردة) و (المعسكر الغربي) وأمامه (المعسكر الشرقي) او ما كان يطلق عليه اصطلاحاً (الاشتراكي) كانت هي المحرك (السبرنطيقي) للوعي المجتمعي الجمعي الذي من شأنه أن يصطف مع التوجهات لمغذيات الروافد الفكرية التي يأتي في مقدمتها الفن باختلاف أجناسه الإبداعية.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك آليات الوعي الثقافي الذي كان يستند إليه تداعت الكثير من الهموم والأفكار والمواضيع التي كانت لها السيادة في التفكير والانجاز، ضمن ما كان يعرف في تاريخ الفن بـ (الواقعية الاشتراكية) و (انتصار) مفهوم (الإطاحة بالمعنى) لصالح الشكل، وكذلك بروز معنى (التفاهة) الذي اسست له وسائل الاتصال الحديثة التي أسهمت بشكل فاعل في تضييق الخناق على الفنان على العكس من الفكرة المشاعة بأنها اتاحت له المجال في الانتشار..”
وأضاف: “من ضمن (المتمنى) الذي أسعى الى شيوعه هو الفهم الحقيقي لروح العصر وأن يكون لنا دور فاعل في صياغة الجزء الذي يخص قضايانا المركزية على مستويات مختلفة (الدين، الفكر، الفن، الاقتصاد) ليكون لنا حضور حقيقي يحافظ على وجودنا وهويتنا بوجه (نعومة) الهجمة الشرسة التي يجري تصديرها الى مجتمعاتنا، وهنا تكون المسؤولية على الفنان والمثقف مسؤولية تاريخية نظراً لجسامتها وثقلها الذي يجعلنا نردد مقولة شكسبير (أكون او لا أكون)”.
انكفاء الذات
فيما كان للكاتب رحيم يوسف رأي مختلف اذ تحدث عن معنى المثقف او الكائن الذي يمتلك مشروعاً ثقافيا لتكون لديه الفاعلية والتأثير، إذ قال: “ما هو دور السلطات في دعم تلك المشاريع وترسيخها عبر تقديم بعض الدعم وإن كانت يسيرة، فالجميع يعلم جيدا بأن ذلك الدعم مفقود أساساً، وعليه فقد اضطر معظم أصحاب تلك المشاريع للهجرة عن بلدانهم بحثاً عن حياة بديلة لترسيخ وإطلاق مشاريعهم من خلالها، بينما كان رأي السلطات هو تغييب أصحاب تلك المشاريع لأنهم كانوا يشكلون خطراً على تلك السلطات العمياء او التي تنظر بعين واحدة على أكثر تقدير، فقد عمدت الأنظمة العربية (باستثناءات قليلة) على إلغاء الدور الفاعل للنخبة الثقافية عبر عزله بكل الطرق والوسائل التي تنتهجها بالضد منه. وبذلك أصبح تائهاً ومهزوماً، تلك الهزيمة التي جعلته وحيداً فاقداً فاعليته الثقافية وبالتالي فاعليته الاجتماعية ليفقد دوره شيئاً فشيئاً، ولعل أولى تلك الوسائل هي الحرب الاقتصادية التي مورست ضده بطرق ممنهجة ومدروسة، لتجعله ينكفئ على ذاته. وهذا الواقع العام لهذه الشريحة المهمة التي كانت تمتلك الفاعلية في التأثير بالرأي العام، وفي حالات قليلة ومعروفة، صارت تنتظر بعين واحدة باتجاه المثقف الذي يدور ضمن نطاقها او في فلكها -بعبارة أكثر تحديدا- فمن أين لهذا المثقف المزعوم ان يمتلك مشروعاً ذا فاعلية ويستطيع تحريك الرأي العام؟ إلا من خلال رأي السلطة ليقول ما تقول ليس إلا، اما اختفاء هذا الدور ازاء القضية الفلسطينية فهو معروف للجميع، من خلال الاتفاقات العلنية للكثير من الأنظمة العربية مع حكومات الاحتلال الإسرائيلية المتعاقبة، أو التي تجري تحت الطاولة ليبقى دور المثقف محدوداً، وتبين ذلك من خلال المحاولات الخجولة التي تنطلق من وهناك دون أن تمتلك تأثيراً في أوساط الجماهير، ولننظر الى ما يحدث في غزة الآن، فشعبها يسحق دون رحمة بينما نكتفي بتدبيج بيانات الاستنكار والتنديد .