المندائي حمادي الزهيري صاحب الـ”127 عاماً”

1٬436

جبار عبد الله الجويبراوي /

انتدبه حاكم العمارة العثماني لتصليح ما أمكن تصليحه من الأسلحة النارية التالفة، إلا أنه اعتذر للحاكم الذي أجبره على العمل فهرب واستجار بـ”فالح الصيهود” شيخ قبيلة “البو محمد” مخبراً إياه أنه لو شرع في تصليح تلك الأسلحة فسيوجهها العثمانيون إلى صدور أبناء وطنه، فهرب وطلب الدخالة وظلّ في حمايته حتى مقابلتي له في شتاء عام 1980.

التجأ إليه السائح الانكليزي “ولفريد ثيسكر” مؤلف كتاب “عرب الهور” (Marsh Arabs) عندما أتقى ضربة خنزير بأخمص بندقيته، كانت ثمة حفرة كبيرة في زندها الخشبي وجرح غائر حدّ العظم في إحد أصابعه كما لو كان مقطوعا بشفرة حلاقة والدماء تتدفق منه (عرب الهور/ ولفريد ثيسكر/ ترجمة د.سلمان عبد الواحد كيوش /ص346). تألم كثيراً عندما شاهد بندقيته وهي شبه تالفة، فطمأنه صدام بن فالح الصيهود شيخ قبيلة البو محمد أن هناك “أسطة” لتصليحها فاصطحبه إلى حمادي وادي كزار الزهيري فأعادها إلى ما كانت عليه فشكره وقامت بينهما صداقة متينة وصار “ولفريد” كلّما مرّ بالكحلاء زار صديقه المندائي حمادي الزهيري.

وما حدث لبندقية صيد “ولفريد ثيسكر” حدث لبندقية صيد السائح “كافن ماكسويل” مؤلف كتاب “قصبة في مهبّ الريح” الذي صدر في لندن منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وقد كان ـ هو وثيسكر ـ في ذلك الوقت بحاجة إلى أمرين؛ أولهما إصلاح بندقية صيد الأسماك التي كسرها “الشيخ” بعد أن كسرت أنفه، وثانيهما وضع عروة جديدة لسكينه التي كان يعتزّ بها كثيراً.
الصابئيان اللذان قصدا بيتهما ذلك المساء، أب وابنه، كانا لولا فارق السنّ بينهما يتشابهان تماماً، فكلّ منهما قصير ذو لحية بطريركية الحجم بيضاء عند الأب وسوداء لدى الابن، وكانا هادئين يبدو عليهما النبل والوداعة، ووضع كلّ منهما على عينيه نظارة سلكية الإطار بعدستين تامتي الاستدارة، وكانا يلبسان بدلتين بيضاوتين فوقهما سترتان أوربيتان، ويتلفع كلّ منهما باليشماغ الأحمر.

كان المنزل الذي دخلاه هو محل العمل أيضاً، وقد رصفت على بواري القصب فيما بين الأقواس الداخلية للكوخ، حفنة من الآلات الدقيقة وقطع من المعدن المستهلك، وبدأ الشيخ عمله في سكّين ماكسويل.

وهذان الصابئيان لا يرتضيان بشيء أقل من الكمال في عملهما، وإنهما لم يتقبّلا أجوراً من ثيسكر، ولعلّ هذا إكراما له (كافن ماكسويل / قصبة في مهب الريح / ص197 ).
كان الرجل مُعَمِّرا. وإن السرّ في ذلك أنه طيلة حياته لم يتناول أيّ شيء بارد أو حار ولم يأكل أيّ شيء مصنوع، وإنما يأكل المخلوقات، يعني يأكل الفواكه والخضراوات ولم يأكل الحلويات وما شاكلها، وكلّ شيء يصنع يدوياً، وكان كلّ أسبوع يشرب نصف قدح شاي “جفت” ويصوم في اليوم التالي.و”الجفت” مسحوق ثمرة البلوط وقشرها.

هو أول من غَنّى (طور الصبّي) كما ذكر لي وأسمعني أبياتاً مؤثرة من الأبوذية لدقة معانيها وجمال صوته، تركته بعد الواحدة صباحاً في يوم شتائي بارد وجلست مبكراً في اليوم التالي لأودع نهر (المْعَيِّل) وأشجار النخيل التي تظلله حيث طلبت نقلاً إلى مدرسة أقرب من مدرستي الحالية، شاهدني صباحاً وطلب مني الانتظار في مدرسة اليرموك الريفية عند اصطفاف التلاميذ وقد فاجأني أنه دخل ساحة المدرسة وطلب من كل معلّم وتلميذ وتلميذة لها علاقة به فكانت نسبة التلاميذ والمعلمين الذين يرتبطون به حوالي رُبع تلاميذ المدرسة.

عبر على الحوت التي جنحت في نهر دجلة في منطقة الكسارة سد (أبو روبه) عام 1297هـ / 1879م سبعَ مرات. وهذه “الحوت” حاولت الاستدارة فالتصقتْ بالأرض وسدّت النهر فتغيّر مجراه وصار الناس يعبرون عليها من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر من نهر دجلة. وحديث الناس عنها أيام زمان كثير (المحامي عباس العزاوي/ تاريخ العراق بين احتلالين/ ج8/ ص52 ).
اندلعت الحرب بين العراق وإيران وأصبحت قريته خطوطاً لخلفيات الجيش العراقيّ فأجبروا على الانتقال إلى مركز المدينة وقد زرته مرتين وشكى حاله وأخبرني أنه لم يستطع العيش من دون الأهوار وجيرانه القدامى، فانتقل إلى عالم الأنوار، في مطلع عام 1981 (رحمه الله).

صورته مع ابنه (عودة) كما نشرتها مجلة الجمعية الآسيوية الملكية في لندن/ في عددها الصادر في كانون الثاني عام 1954 (Royal Central Asian Society January 1954 ) .