شعراء الأغنية السبعينية يحاكمون أغاني اليوم

2٬004

 كاظم غيلان/

ما من مفصل من مفاصل حياتنا العراقية العاصفة بالمتغيرات إلا وكانت للسياسة تدخلاتها فيه، سلبية كانت هذه التدخلات أم إيجابية، ولربما طال هذا الأمر أبرز جماليات هذه المفاصل وأشدها حساسية وملامسة لوجداننا وأعني «الأغنية العراقية» التي دخلت حيّز الخراب وأرتدت ثياب ثقافة العنف بحكم ردح طويل من حروب متلاحقة وحصارات مفتعلة مريرة،

ولربما بلغت ذروة انحدارها حين أقدم «عدي» نجل الطاغية صدام على استحداث مؤسسته المحاطة بكل ماهو قبيح والتي أطلق عليها «قناة الشباب- إذاعة وتلفاز».

راحت مؤسسة «عدي» تسهم وتوغل في تخريب ذائقة الناس وتعمل على إقصاء وتشويه الملامح الأصيلة التي عرفت بها الأغنية العراقية، مستبدلة تلك الملامح التي تحمل وقار زمنها بمضامين وإيقاعات رخيصة مبتذلة وأصوات نشاز لا يطاق سماعها، فضلاً عن ستوديوهات التسجيل «القطاع الخاص» المعنية بالربح والسمسرة التجارية على حساب كلّ ماهو أصيل وعريق، واستفحلت الظاهرة هذه إذْ بلغت ذروتها مع متغيّر نيسان 2003 بحكم تناسل الفضائيات وموجات البث الإذاعيّ.

وبرغم ماتقدم كله بقي إشعاع الأغنية السبعينية أشدّ سطوعاً وحضوراً راسخاً في ذاكرة الناس لتراهن على ديمومتها.

«الشبكة» استطلعت آراء عدد من شعراء الأغنية العراقية البارزين للتعرف على انطباعاتهم حول هذا الموضوع:

أول الغيث «ياحريمة»

الشاعر الغنائي المعروف «ناظم السماوي» مؤلف الكثير من الأغاني العراقية أبرزها «ياحريمة» التي قام بأدائها الفنان القدير حسين نعمة؛ استهل حديثه معنا مقارناً بين رداءة وإسفاف النصوص الحالية وفردوس الأصالة المفقود؛ بين «زرازير البراري» و»صديقي باك محفظتي وقهرني»، في سبيل المثال، وغيرها من بذاءات؛ مقارناً في الوقت ذاته بين الشاعر المثقف الذي كتب أغنياته بلغة متحركة نابعة من ضمير معاناته التي تسبح في الذاكرة الموشومة بالترقب الأخلاقي الملامس لوجدان الإنسان وبين الإساءة لذائقتهم من خلال الارتزاق المشين؛ موضحاً بالقول: (الأغنية السبعينية ليست أغنية مزاج أو منفعة شخصية ضيّقة، بل كانت حصيلة مشتركات واعية بين عناصرها في التأليف واللحن والأداء)، منبهاً لخطورة الاسفاف البعيد عن الاستحقاق الإنساني والتربية الفنية الجميلة، فأقطاب الشراكة المنتجة للأغنية الحالية تفتقر معظمها للحسّ الوطنيّ – الثقافيّ، ليصل حدّ الرخص؛ الأمر الذي أدى إلى خدش للحياء يصل حدّ السقوط.

المثلث الإبداعي

الشاعر «محمد المحاويلي» مؤلف العديد من الأغاني المعروفة الشائعة ولعلّ من أبرزها (أيفر بيّه هوى المحبوب) أشار بالقول الى أن سرّ ديمومة وتجدّد الأغنية السبعينية ينبع من كونها أصيلة وغير هجينة ولأنها حقيقية تنتمي لنتاج واعٍ يستند لحقبة أعمدتها متسلحة بالثقافة المكتنزة على الأصعدة كافة، ولذا فهي شكلت بمؤلفيها وملحنيها ومطربيها ثلاثياً إبداعياً حقّق التفرد في رفع مستوى ذائقة الناس واسهم في تهذيبها، كما تلخصت بالعديد من الميّزات كمواكبتها للحداثة الثقافية في النصوص الشعرية البعيدة عن الحشو والإسفاف فضلاً عن النبوغ المبكر لجيل من الملحنين الموهوبين الذين أبعدوا أنفسهم عن التأثر بالإيقاعات الهجينة الغربية.

يعزز المحاويلي رأيه بالصرامة التي تعاملت معها الجهات المسؤولة عن حقل الموسيقى والغناء ممثلة بلجان الفحص والاختبار؛ الأمر الذي أنتج في سبيل المثال القصائد المغناة. أما أغنية اليوم فيصفها بالهجينة التي سرعان ما تغادر الذاكرة دون أن تُذكر.

بئس الوليدُ والصديق

لربما اختلف رأي الشاعر «حسن الخزاعي» بعض الشيء عن رأي زميليه السماوي والمحاويلي، إذ أشار إلى أن الموجة الجديدة لا تخلو من محاولات جميلة خلاقة ومبدعة، مع ذلك فهي لم تصمد أمام سابقاتها – السبعينية ، لا سيّما تلك التي يتم تعميمها من قبل ما أسماه بـ»جيل الفيسبوك» وألقى عتبه على من ركبوا الموجة السريعة وإن لم يهتدوا للأصالة ويعودوا لينابيعها الأولى فهم بئس الوليدُ والصديقُ والخليل.
أما الأغنية السبعينية فيرى الخزاعي ثيمة تفوقها من خلال مضامينها، ولعلّها الحقبة الاستثنائية التي شهدت تطوراً كبيراً وواسعاً في تأريخ مسار الأغنية العراقية؛ مختتماً رأيه بتشبيهها بالمرأة الجميلة التي لا تحتاج حتى لأدوات التجميل؛ لما في ملامحها من جمال وأصالة وعمق.

وجه آخر للسياسة

الشاعر «سعدون قاسم» أجاب وكأنه يردّ على تهمة غير مخلّة بالشرف الفني الجمالي قائلاً: لست شيوعياً، ولكنّ ثقافة الحزب الشيوعي في السبعينات وتأثر الأدباء والفنانين بتلك الثقافة أنتجت جيلاً مثقفاً جميلاً في كل المجالات؛ ومنها الشعر فكانت نوازع إنسانية ترتقي بالفرد والمجتمع الى ذائقة جمالية عالية من الحسّ والرقي. ولربما كان هذا أحد الأسباب المهمة لبقائها.
هذه الأسباب، إضافة إلى وجود أصوات مميزة ممثلة بـ»ياس خضر، سعدون جابر، حسين نعمة، فاضل عواد، رياض أحمد، فؤاد سالم، قحطان العطار، عارف محسن.. وغيرهم» إلى جانب طاقات لحنية كبيرة ممثلة بـ»طالب القرغولي، كوكب حمزة، محسن فرحان، جعفر الخفاف، كاظم فندي وآخرين»، أنتجت هذه النخبة أغنيات خالدة لم تزل محافظة ومراهنة على ديمومتها وبريقها حتى هذه اللحظة، حدّ أنه بات من الصعب تقليدها من قبل شباب الموجة الجديدة الذين أخفقوا حتى في التقليد.

ويختم حديثه بالقول: برأيي إن هذا الانحدار المؤلم لم ينتج سوى شاهد زور يسعى لتدمير ذائقة وحضارة وتأريخ كامل. ليس سوى الربح المالي وراء هذا التردّي الذي هو الوجه الآخر لراهننا السياسي.