على أرضها نشأ سرجون الأكدي كيش.. أولى مدن فجر السلالات

161

علي لفتة سعيد/
لا مكان في العراق إلا وتحته أو فوقه آثار غائرة في عمق التاريخ.. كأنك إذا غرفت تربةً تخرج لك اللّقى والآثار والطلاسم، وحتى الأحجية، ومن بينها قصور كيش الملكية التي لم تبق منها غير كتل التراب والآجر الأحمر، وهي تحكي قصة عمق الحضارة العراقية والاتصال بكل ما هو قابع حتى في الأساطير السومرية وقبل السومرية.

يقول الباحث في الشأن الآثاري (الدكتور عدنان عبيد المسعودي) إن أسطورة (إيتانا)، وهو الملك الرابع في سلالة كيش الأولى، تقول في إحدى صفحاتها على لسان الراوي: “هناك شجرة حور نبتت قرب القصر الملكي، في أعلاها اتخذ النسرُ عشاً، وفي جذورها اتخذ الثعبان وجراً، وتعاهد النسر مع الثعبان أمام إله الشمس (أوتو) على ألا يعتدي أحدهما على الآخر، وهكذا عاشا بسلام، حتى غلبت على النسر طبيعته السيئة وحدثته نفسه بالشر، فعدا على صغار الثعبان، ليفترسها..” وهو ما يعني أنها بداية أول قصة معراج إلى السماء، في قصة إيتانا مع النسر. لذا يؤكد المسعودي أنها أول مدينةٍ من مدن فجر السلالات العتيقة.
لم يبق منها شيء إلا أطلال وكتل التراب والآجر الأحمر، ويصفها كأنها تجاهلت زفير الشمس، حين وقف عند قواعد التلال يحصي الدهور ويختزل زمن الشظايا المتناثر في أعتق مقبرة لحضارة كيش، التي كانت بمساحات عظيمة تمثل عاصمة فعلية لبلاد سومر خلال أكثر عصور فجر السلالات التي سبقت قيام العهد الأكدي، ولم تبق من مساحتها إلا رقعة جغرافية لا تتجاوز الأربعة آلاف ومئتين وإثني عشر دونماً عراقياً.
يصف المسعودي كيش بأن بعض تلالها التاريخية حمراء، وأعظمها يرتفع أكثر من عشرين متراً فوق مستوى السهل المجاور له، وتتكلّل سطوح تلك التلال بشظايا الآجر، وحطام الفخار، وأطلال أمة درست هناك. ويذكر أن من كشف عن قواعدها وأسسها هم البريطانيون، وكانت على شكل هياكل لبنية رقدت لأكثر من أربعة آلاف سنة خلت تحت التراب. بين تلك الجدران المتآكلة نشأ سرجون الأكدي.. الأب الأكبر لبلاد الرافدين.
عن سرجون.. يقول المسعودي إن اسمه الآخر هو (صارغون)، وكان يتيماً لم ير والده، لكن أمه كانت كاهنة من مدينة (أوزابيرانو) على شواطئ الفرات القديم.. كاهنة من طبقة (الأنيتوم)، والأنيتوم تعني البتول أو الطاهرة، التي لا يحق لها مجاورة الرجال مطلقاً، ويحرّم عليها الإنجاب، لكنها حملت به سراً ووضعته سراً، ثم أغلقت عليه قفّة (سلّة مائية مقيّرة)، وألقت به إلى الفرات، فما زال الفرات يتموّج به حتى التقطه بستاني القصر الملكي في كيش المدعو (أجا). وكان ذلك البستاني الطيب يشغل وظيفة حامل كأس الملك وساقيه. فنشأ صارغون الأكدي هناك، وورث مهنة أبيه بالتبني، سقاية ملك كيش (أور زابا)، وهو الملك الثاني في سلالة كيش الرابعة، وشبّ طموحاً وشجاعاً، فأوجس الملك أور زابابا في نفسه منه خيفةً. ويشير الى أن هذه القصة فيها تشابه كبير مع قصة النبي موسى (ع).
زقورة كيش
يقول الباحث: على بعد كيلو متر واحد فقط من مواقع القصور الملكية، يتراءى للناظر تلّ أثري عظيم، يرتفع بحدود ثلاثين متراً فوق مستوى السهل المجاور له، يحيطه فضاء أثري مسيّج، يحتل مساحة أكثر من مئة دونم عراقي تقريباً، وذلك عند تقاطع الجسر مع الشارع الستراتيجي في ضواحي كيش الأثرية، ويبدو التل أحمرَ داكناً، أنوفاً بشموخه، ويسمى بـ (تل الأحيمر الأثري)، وتتألف قمته من آجرّ أحمر داكن، ويؤكد أنها زقورة كيش الأثرية، تتطاول شموخاً. وتستمد تلال كيش حمرتها الآجرية من تآكل كتل الآجر بسبب عوامل التعرية الطبيعية، وهذه الزقورة مخصصة لعبادة القمر، شفيع مدينة كيش الأثرية.
عن أهل كيش يقول المسعودي إنهم ليسوا من عنصرٍ واحد، بل هم مزيج مختلف من سومريين وجزريين (ساميين) كما أن بعضهم عيلاميون، هذه المدينة ظهرت إلى الوجود بعد مدة زمنية قصيرة نسبياً لا تتعدى مئتي عام بعد الطوفان، أي في حدود (2800 ق.م).
بين التسمية والأحقية التاريخية، تقع آثار كيش العراقية بين مرحلتي التأكيد والأسطورة. يقول الباحث في الشأن الآثاري (حسين ياسر)، إنه بحسب الأساطير السومرية، تعتبر أول مدينة يتربع عليها ملك بعد الطوفان الكبير الذي ذكر في الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية. ويضيف أنها تلفظ باللغة الأكدية كيشاتو، وكانت تقع على بعد 12كم عن آثار بابل، و80 كم جنوبي بغداد. ازدهرت بشكل خاص في الألف الثالث قبل الميلاد، لكونها مقر السلالة الأولى بعد الطوفان. ويعتقد أن الملكة (كوبابا) هي أول امرأة من بلاد الرافدين تجلس على العرش. وقد ذكرت كوبابا في قائمة الملوك السومريين، وقد حكمت مدينة كيش بحدود العام 2330 ق.م، وبذلك سبقت أول ملكة مصرية وهي (سبك نفرو)، وكذلك الملكة المصرية الشهيرة كليو باترا، وكذلك سبقت (توربا) بمئات السنين.
مسقط رأس أعظم الملوك
يقول الباحث ياسر إن كيش هي مسقط رأس الملك الأعظم سرجون الأكدي، الذي تولى الحكم في ٢٣٤٠ ق.م، قبل توحيد أراضي بلاد الرافدين. وحمل سرجون وخلفاؤه لقب (ملك كيش)، ويعني بالأكادية (ملك الجميع)، وله مكانة عالية. وأدرج (ريموش)، ابن سرجون، هذا اللقب على مزهريات المرمر وعلى محارة محفوظة في متحف اللوفر. وهي في قلب إمبراطورية أكد على مقربة من أغادي (أو أكادي)، العاصمة القديمة لسرجون، وازدهرت حتى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، واستمر استيطانها في العصور البارثية (الفرثية) والساسانية، حين جرى بناء قلعة وقصر مزيّن بزخارف جصية.
وعما وجد في الموقع، يقول الباحث: في عام 1873 من خلال بعثة يقودها (جورج سميث)، وكذلك حفريات الفريق الفرنسي بقيادة (هنري ده جنوياك) بين عامي 1912و 1914، عثر على 1400 لوح طيني، وُزعت بين متحفي اسطنبول واللوڤر. فضلاً عن بعثة بريطانية عام 1924 بقيادة (لانكدن)، حين عثر على عشرات الرقم تضم موضوعات عن اللغة السومرية وقواعدها الصرفية والنحوية، بالإضافة الى جداول للعلامات والنصوص المكتوبة. ويؤكد الباحث أنها أثار عظيمة تحتاج الى الاستمرار في البحث للعثور على كنوزها المهمة.