شاهد على وحشية نظام البعث وبشاعة جرائمه “نقرة السلمان”

350

السماوة / يوسف المحسن/

أكثر من عقدين مرّا على التغيير السياسي وسقوط النظام المباد في العام 2003، ووسط انشغال المؤسسات الحكومية والمجتمعية بالملفات الخدمية والاجتماعية، بقي الكثير من الشواهد التاريخية عرضة للتلف والاندثار، لعل أكثرها جذباً للاهتمام سجن نقرة السلمان الشهير، الذي ارتبط بقصص الإبادة والجرائم الوحشية التي ارتكبت ضد المعتقلين طوال ستين عاماً من استخدامه كمنفى سياسي ذاع صيته وسط حكايات القسوة المفرطة التي ارتبطت به.
مركز حدودي بدرجة منفى
نقرة السلمان، اسم طالما تكرر على ألسنة المتابعين والدارسين لتاريخ العراق المعاصر، فهو السجن الأكثر شهرة، شيد بطلب من المندوب البريطاني (كلوب باشا) في عام ألف وتسعمئة وسبعة وعشرين، ليكون مركزاً لحرس الحدود على إثر الهجمات الدموية التي كان يتعرض لها البدو العراقيين، ولاسيما بعد مقتل 694 منهم في العام 1922 على يد مهاجمين. وكما يقول الباحث (عدنان سمير دهيرب)، في العام 1949جرى تحويل المركز الحدودي الى سجن، أو منفى، حين أودع فيه أول مئتي سجين، كان من بينهم شعراء وادباء واطباء وضباط جيش، ولعل من أشهرهم الشاعر مظفر النواب والسياسي سلام عادل والشاعران ناظم السماوي وألفريد سمعان، حين نُظم أول اضراب جرى قمعه ولم يكتب له النجاح في العام 1949.
نسخة من الباستيل الفرنسي
معتقل نقرة السلمان هو باستيل العراق، كذلك ثمّة شبه كبير مع سجن (الكتراز) المحاط بالمياه في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنّه محاط بالصحراء. ومن خلال التصوير الجوي يظهر مثل بقعة خارج الحياة وخارج الحضارة، أمّا العامل الآخر في شهرته فهو استخدامه كمكان لإبعاد الناشطين السياسيين ونفيهم والتنكيل بهم، وبشكل خاص المعارضين للحكومات التي تعاقبت على حكم العراق. يشير الى ذلك المتخصص في التاريخ المعاصر الدكتور متعب الريشاوي، التدريسي في جامعة المثنى، الذي يؤكد أن الذين أودعوا في هذا المعتقل هم سجناء رأي تعرضوا الى ما تعرضوا له من تعذيب وقسوة وترهيب نفسي وإبادة وحرمان من المحاكمات العادلة.
وقضاء السلمان الذي يمتد على طول الشريط الحدودي، الذي يصل محافظة المثنى بالمملكة العربية السعودية، كان مسرحاً لأحداث كثيرة ومهمة في تاريخ العراق المعاصر، منذ بدايات الاستيطان فيه قبل 500 عام، وعلى مبعدة 160 كيلو متراً من مدينة السماوة باتجاه أقصى الجنوب الغربي، حيث يتوغل في عمق الصحراء على شكل منخفض كبير، وكان السبب الأول في إطلاق تسمية (النقرة) عليه، ومن يهرب منه يواجه مصيراً مجهولاً، ومن الواضح ان تاريخاً من الألم والمأساة قد سجل على جدرانه التي تحتفظ بصرخات العراقيين الذين تعرضوا للتعذيب والقتل والنفي.
مسمار السماوي
الكثير من الأدباء والمفكرين والفنانين وجدوا في سجن نقرة السلمان منصة إبداعية يمكن الانطلاق منها بما أعطته من تفاصيل عن مكابدات الإنسان العراقي، منهم الشاعر الشعبي والغنائي والمعتقل السابق فيه (ناظم السماوي)، الذي اجتاز عقده الثامن كأحد الناجين منه، وقد زاره مع مجموعة من المثقفين والمسؤولين الحكوميين لمشاهدة بقايا السجن وأطلاله، وتجول في الزنزانة التي اعتقل فيها لسنوات مع مجموعة من الأدباء والمثقفين والسياسيين المعارضين. السماوي حينها لم يتمالك دموعه وأجهش في البكاء وهو يستذكر جوانب مما شاهده وعايشه من ظروف قاهرة إبان فترة حبسه، حيث استعاد شريط ما حدث قائلاً إن “هذه الجدران كانت ومازالت أقل قسوة من قلوب السجانين، إذ ارتكبت هنا وفي سجون أخرى أبشع أنواع الجرائم لإلغاء الرأي الآخر وتكريس الدكتاتورية والتفرّد بالسلطة.” مضيفاً أنه كتب عدداً من قصائده المغنّاة في هذا المكان، ومن بينها قصيدة (ياحريمة) التي أداها الفنان حسين نعمة. السماوي الذي وقف متألماً عند الزاوية التي جلس عندها في السجن ليرى مسمار الحائط الذي كان يعلق به ملابسه، أكد انه كان من بين 132 معتقلاً في (القاووش) وواحداً من 1600 شخص جري اعتقالهم في السجن، جلّهم من الأدباء والطيارين والقادة وطلبة وأساتذة الجامعات.
العطش والمفترسات والصحراء
ما حدث هناك طوال عقود مازال بعيداً عن الفهم والاستيعاب، يصف ذلك (الدكتور الريشاوي) بسجل انتهاكات بشع، حيث اختير مكانه وسط صحراء لانهاية لها، لذلك فإن الهروب منه يعد انتحاراً، لأن العطش والضواري في انتظار الهاربين، وهو ما حدث للعوائل الكردية التي جُلبت بعد عمليات الأنفال نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. وفي نقرة السلمان، البوابة الصحراوية التي تطل على بادية العراق الجنوبية، هنالك ألف حكاية وحكاية، حيث تتوالد أسرار الصحراء لتكون عصية إلا على من سكن هناك، فالسلمان مكان ارتبط طوال سبعين عاماً بالمنفيين السياسيين، حتى قيل بأنه الجامعة التي تخرج فيها من أحب العراق وعمل من أجل بناء دولته الحديثة.
الدكتور الريشاوي قال إنه زار السجن في العام 2005، ووجد نقوشاً ورسومات على جدرانه، وجملاً كتبها مودعون هناك رسمت جانباً مما حصل في هذا المعتقل السيئ الصيت. ومع الأيام بُنيت سجون ومعتقلات قصية أخرى في مناطق (لية، والشيخيات، والچبد، وبصية) وتكررت فيها ذات الأساليب، وإن اختلفت السنوات واختلف المودعون فيها، ذلك لأن قسوة الصحراء وامتدادها كانا عاملين مشجعين على ارتكاب الفظائع. هي وقائع وتاريخ وسيرة سجن تدفع للمطالبة بتحويله الى متحف يوثق جانباً من تاريخ العراق، فالسجن الذي قاربت مئويته على الوصول مازال بناؤه صامداً لكنه على قائمة الاندثار، والحكايات المنقوشة على جدرانه تمثل وثيقة تاريخية مهمة يمكن أن تنقل الى الأجيال صورة واضحة عما حصل فيه.