الموت.. بين القضاء عليه والخوف منه

880

أ.د.قاسم حسين صالح/

نشرت مجلة “الشبكة” موضوعاً جريئاً ومدهشاً بعنوان “هل يتمكن الطب من القضاء على الموت” بقلم الدكتور “يوسف الأشيقر”؛ قدم له المحرر بأن الموضوع ليس فيه “أي إنشاء زائد أو هرطقات أو تصورات خارج نطاق الطب والعلم”، مع انه يعد بقضيتين تبدوان أبعد من الخيال بأن “العلم والطب سيتمكنان بعد بضعة عقود من القضاء على جميع مسببات الموت وإدامة الحياة إلى ما لانهاية، وإعادة الأموات إلى الحياة من جديد”. بمعنى إنه سيأتي يوم تعيش فيه إلى الأبد، ويعيد جدّك إلى الحياة مع إنه مات قبل مائة عام!

أهم اكتشاف علمي

الحقيقة المؤكدة إن تطور العلم يأتي دائماً بجديد يدهشك. ففي بداية الألفية الثالثة، أعلنت المحطات الفضائية وشبكة المعلومات الدولية “الإنترنت” عن أهم اكتشاف علمي يُفتَتح به القرن الواحد والعشرون هو الخريطة الوراثية للإنسان، أو ما اصطلح على تسميته بـ (الجينوم البشري) الذي وصفته المجلات العلمية بأنه “ثمرة مجهود دوليّ عام، والجهد الأهم في تاريخ البشرية، والفصل الأول في كتابة الحياة”.

وخريطة المورثات البشرية أو ما يسميه كثيرون بـ (كتاب الحياة) كان مؤملاً لها أن تمكّن الطب بحدود هذا العام (2016) من وضع علاجات متكيفة مع التركيبة الجينية لكل فرد، وعلاج الأمراض المستعصية.

المفاجأة الكبيرة التي قدمتها خارطة الجينوم البشري أن المورثات البشرية ينحصر عددها بين 26 ألفا إلى 40 ألف مورثة، فيما كان يعتقد أن عددها يتراوح ين 60 ألفا إلى 100 ألف جين. والدهشة الأكبر أن عدد جينات الإنسان تبين أنها تزيد على جينات (الجرذ) بـ(300)جينة فقط!، وأننا نشترك مع الشمبانزي بـ(99%) من عدد الجينات!..ومن هذه الحقائق العلمية تحديداً نشأ طموح بتمكين العلم والطب من (القضاء على الموت) ومسعى جلجامش في تحقيق الخلود.

العلم والدين

لا يتعارض الدين ـ لاسيما الدين الإسلامي ـ مع العلم، ولك أن تراجع كتب تفسير القرآن ونهج البلاغة لتجد فيها ما أثبت العلم صحته بعد أكثر من ألف سنة. وفي هذا يقول الإمام علي (لا شرف كالعلم، ولا علم كالتفكير).
غير أن الدين يتعارض مع العلم حين يستهدف نسف ثوابته. ويعدّ الموت أحد أهم ثوابته، لأن نسفه بالمطلق يعني عدم التصديق بالآخرة والنار التي يودع فيها الكافرون، والجنة وحور

العين والولدان المخلدين. ولهذا ستقف كل الأديان السماوية ضد العمل بـ”القضاء على الموت”، وستقف إلى جانب سعي العلم والطبّ في إطالة عمر الإنسان.

ضريبة العلم

لكل اكتشاف علمي كبير إيجابياته وسلبياته من حيث توظيف معطيات هذا الاكتشاف لاسيما تلك المتعلقة بالإنسان. ونرى أن سلبيات القضاء على الموت أكبر من إيجابياته وأخطر في ضوء المنظور الإنساني. فلو افترضنا أنه سيأتي يوم يتم فيه القضاء على الموت، فمن ذا الذي يحصل على هذه (الوصفة) السحرية؟

إن قلّة من الأثرياء جداً هم الذين سيحصلون عليه، وإن الغالبية المطلقة من هذه القلّة لا يتمتعون بأخلاق إنسانية لأنهم إما إنهم يعتبرون الثروة أهم من الإنسان وإما من محبّي السلطة؛ ما يعني أن القضاء على الموت سيكون لصالح الأنموذج الرديء من البشر. ولهذا لن يأخذ هذا الاكتشاف طريقه إلى التطبيق على البشر. وقد تنشأ بسببه الحروب في الدول التي تنوي تطبيقه.

الخوف من الموت

على إن الذي يشغل الناس هو الخوف من الموت، وتساؤلات من قبيل: لماذا نخاف من الموت؟ وهل نتساوى جميعاً في ذلك؟ أعني هل يتساوى المثقف في خوفه من الموت مع الإنسان العادي مثلاً؟ ومن يخاف من الموت أكثر، المؤمن أم الملحد؟ المفكّر أم الفلاّح؟

الخوف في مفهومنا، نحن السيكولوجيين، حالة نفسية تنشأ عن قلق من شيء يشكّل للفرد تهديداً أو خطراً. والخطر هنا يهدد حاجة الإنسان للبقاء، لأن الموت يعني الفناء.

الشيء الجيد أن التفكير بالموت يأتي في الغالب بمرحلة الشيخوخة، حين يدرك الإنسان أن أيامه أصبحت معدودة، ومع ذلك فإن تعامل كبار السن مع الخوف من الموت يكون مختلفاً، فمنهم من يتقبله ويقول: (الحمد لله حسنُ الختام)، وآخرون يعملون على خفضه بزيارة أضرحة الأئمة والرجال الصالحين أو الحج، أو التردد على الكنيسة. وهذه كلها وسائل تخدم خفض الخوف من الموت. وقسم آخر يقول لنفسه: لأستمتعْ بالباقي من عمري.. في السفر مثلاً؛ أو الزواج من صبية!. وبالمناسبة، فإن الساعة البيولوجية في الجسم تتحسس قرب النهاية، فتقلل ساعات النوم حين يتقدم الإنسان بالعمر، وكأنها تقول له: لقد قربت نهايتك، وسأخفض من ساعات نومك لتستمتع. فوراءك نوم طويل!

أسباب الخوف من الموت

للخوف من الموت أكثر من سبب نجملها بالآتي:

1. سبب سيكولوجي صرف يتحدد بحاجة الإنسان للبقاء وخوفه من الفناء.

2. سبب اجتماعي ـ حضاري (متعلّم). ففي الحضارة الأوروبية مثلاً، يتجنب الناس الحديث عن الموت، ويكون التعبير عن الحزن بأقل درجاته، فيتعلم الأطفال ذلك حين يكبرون فيما عملت حضارتنا العربية والإسلامية على تضخيم الخوف من الموت. وأظن أن المجتمع العراقي هو (الأنموذج) في هذا الشأن. فتقالدينا العراقية تقضي بلبس الملابس السود (على المتوفى) لأشهر، وربما سنة أو سنوات، وهنالك السبعة، وطقوس “الأربعين”، ودورة السنة. وفي تشييع الجنازة يكون اللطم على الخدود والصدور والنواح وشق الثياب، ولا أظن أن امرأة في العالم تظاهي (العراقيات) في اللطم الجمعيّ على الميت، فصار الخوف من الموت أو المبالغة فيه سلوكاً نتعلمه جيلاً بعد جيل، مثلما تتعلم الطفلة الصغيرة الخوف من الفأرة حين ترى أمها تصاب بالرعب منها.

3. وثالث الأسباب، أن الإنسان لا يخاف من الموت نفسه، بقدر ما يخاف من عملية الموت التي يتصورها بأنها مرعبة و(حشرجة..وغصّة) ويخلق خيالات وتصورات مخيفة بخصوص الموت يتعامل معها كما لو كانت حقائق، مع أن الموت مسألة بسيطة جداً..هي أن تطرح زفيراً ولا تأخذ بعده شهيقاً!.

4. ورابعها أن بعض الأشخاص لا يخافون من الموت نفسه بل يخافون منه لأنه ينهي إلى الأبد علاقة بأحبّة متعلقين بهم.

المثقفون.. والموت!

لدينا فرضية نصوغها بالقول:(أن المثقفين أكثر الناس خوفاً من الموت)، وذلك لمبررات (حيثيات) نوجزها بالآتي:

1. إن نسبة النرجسية بين المثقفين أعلى مقارنة بفئات المجتمع الأخرى. وإن النرجسيّ متعلق بالحياة وترعبه فكرة الموت.

2. إن المثقف أكثر الناس تعلقاً بالحبّ وتحسساً للجمال، ولأن الحب والجمال مرتبطان بالحياة فيما الموت يعني ـ عنده ـ القبح والفناء.

3. إن المثقف أكثر انشغالاً بالتفكير في الحياة والموت وأكثر اهتماماً بقراءة أو كتابة الروايات والشعر والمسرحيات التي تدور أفكارها الأساسية حول الحياة والموت، فينشغل بها لاشعورياً لاسيما في نوعية أحلامه.

4. إن المثقف أكثر الناس انشغالاً بهمومهم وأكثرهم حرصاً على أن تكون الحياة إنسانية. وبما إن أهدافه غالباً ما تكون مثالية، فإنه يخشى أن يباغته الموت قبل أن يحققها.

5. إن المثقف أكثر الناس انشغالاً بفكرة مصير الإنسان بعد الموت، وبينهم نسبة كبيرة تعيش حالة الشك بين أن يبعث بعد الموت أو يفنى، أو حالة شبيهة بحالة بطل رواية (الحب في زمن الكوليرا) حين يسأله صاحبه: هل تؤمن بالله؟ فيجيبه: لا، ولكني أخاف منه!

المتدينون.. والملحدون

يعدّ المتدينون الأشخاص الأقلّ خوفاً من الموت، لأن المتدين ينظر إلى الحياة بوصفها مرحلة عمرية قصيرة او سفراً ينتهي بالوصول إلى مكان مقصود. أما الملحدون فأنهم يعدّون الموت فناءً، وإن الإنسان، هذا الكائن الجميل والعقل المبدع والروح الشفافة، يتحول بعد الموت إلى سماد كيمياوي يمتزج بالتربة، فينظرون للموت على إنه نهاية غير عادلة أو قرار ظالم مجحف مرعب!

هل أنت خائف من الموت؟!

نعم، كلنا نخاف من الموت بمن فينا المتدينون الذين لديهم يقين ثابت بالحياة الأخرى. فهنالك رواية عن النبي موسى أنه حين جاءه عزرائيل ليقبض روحه رجاه أن يمهله قليلاً وحين غاب عنه هرب موسى خائفاً.

لكننا نقصد هنا الذي لديه خوف مضخّم أو مبالغ فيه من الموت، وإليه نهدي أربع نصائح:

• الأولى: دع الحبّ يستوطن قلبك، وأعني الحبّ بكلّ أنواعه، من حب الحبيبة إلى حب الناس والوطن والجمال والحياة، واشغل نفسك بعمل تحبه.

• والثانية: إياك وحب الثروة، فهنالك علاقة طردية بينهما، فكلما زادت ثروتك زاد خوفك من الموت، وجنابك تعرف الأسباب!

• والثالثة: اجرائية تتعلق بتصحيح مفاهيمنا بخصوص الحزن. فأحزاننا، بخاصة العراقيين، أحزان مرضية وليست إنسانية. وهذه مهمة المناهج التربوية ورجال الدين والوسائل الإعلامية، أن تحولنا إلى أن نضحك بسرعة لا أن نبكي بسرعة كما هي عادتنا!

• أما الرابعة: فليكنْ عندك معتقد تؤمن به، سواء كان دينياً أم فلسفياً. وعش حياتك كما ينبغي، فالإنسان الذي يعيش حياة كاملة يكون مستعداً للموت في أي وقت بتعبير الكاتب الأمريكي الساخر “مارك توين”.

وبما إن معظم العرب (والغالبية المطلقة من العراقيين، والمثقفين بشكل خاص) ما عاشوا حياة كاملة، فإن أحد أهم الشروط التي تساعدهم على خفض الخوف من الموت هو أن يأتوا بحكومات تحترم كرامة الإنسان وتوفر له الفرصة لأن يعيش حياة كاملة ليستقبل بعدها الموت برضا غير نادم، مثلنا، على عمر أضعناه في حروب وكنا فيه مثل.. جبر!
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية