الثقافة والثورة المعلوماتية

38

أحمد سعداوي

هناك عدّة محطّات تؤرّخ للثورة المعلوماتية في العالم، لعلّ أهمّها المحطّات الثلاث الأخيرة؛ اختراع الشبكة العالمية “الويب” في 1989، ثم انتشار الحواسيب الشخصية ابتداءً من الثمانينيات في القرن الماضي وصعوداً الى التسعينيات وما بعدها. أما اللحظة الثالثة المهمّة فهي اختراع الهواتف الذكية في بداية الألفية الجديدة. عملياً نحن اليوم، في كلّ مكان من العالم، نعيش في عصر الثورة المعلوماتية التي انتجتها التحديثات المتسارعة للمحطّات أعلاه، وعلى الرغم من أن الكثير من الناس العاديين لا يشعرون بالدهشة كلّ يوم بسبب اختلاف عصرنا عن العصور السابقة ما قبل هذه الثورة، إلا أنها تمثل انقلاباً بمزاج عصرنا.
ثقافياً الأمر كان أشبه بالقنبلة الزمنية التي حذفت كل تأثيرات الجغرافيا، وصار التواصل الثقافي في التو واللحظة، عبر الشبكة العنكبوتية.في عقود سابقة كانت الثقافات الوطنية تعيش بما يشبه الجزر الخاصّة، وكان انتقال المنتجات الثقافية بطيئاً ويخضع لـ”فلاتر” عديدة، تصنعها السلطات، أو أمزجة المثقفين الذين يجيدون نقل هذه المنتجات الثقافية من لغة الى أخرى.
لقد سادت موجات معيّنة في الثقافة العربية بسبب مزاج المترجمين، وبقينا في العراق مثلاً حتى العام 2003 أشبه ما نكون بالمقيمين في قوقعة مقفلة، لا نكاد نعرف الكثير مما هو متداول في العالم. نقرأ روايات وكتباً في مجالات معرفية عديدة صدرت في بلدانها الأصلية قبل أعوام، جرى انتقاؤها من قبل مترجمين عرب، حسب مزاجهم وتقييمهم الخاص لانتشارها وتفضيلها بين القرّاء العرب.
قبل وفاته مطلع هذا العام كان الروائي الاميركي بول اوستر قد أصدر روايته الأخيرة “بومغارتنر” وترجمت الى العربية بذات الأسم هذا العام، وقبلها أصدر روايته المهمة “4321” والطريف بالنسبة لي بشأنها؛ أنني كنت ذات ليلة أتصفّح الفيسبوك على حاسوبي، فجاءني إشعار أن بول أوستر غيّر غلاف صفحته على فيسبوك. ذهبت مع الإشعار وإذا به غلاف روايته الجديدة ذات الاسم الغريب “4321”. لقد عرفت، مثلما عرف آلاف حول العالم من محبي بول أوستر، خبر صدور الرواية الجديدة في الوقت نفسه. هذا كان أشبه بالسحر في عقود سابقة، حين كان القرّاء، ومنهم المثقفون، يقرأون كتباً قديمة دائماً. بسبب الرحلة اللزجة التي يمضي بها الكتاب من بلد المنشأ حتى أسواق الثقافة العربية. بل إن المفارقة الأكبر أن كتباً من بلدان عربية مجاورة لا تكاد تصل بسبب مزاج السلطات والحكومات وتأثيرات الصراعات والحروب والخصومات السياسية.
ما هو أكثر تأثيراً من مجرد الاطلاع على مؤلفات وكتب من اصقاع أخرى من العالم هو محاولة لمس ايقاع الثقافة والمعرفة ومنتجات العقل البشري والإبداع الجمالي، وما هو المزاج السائد عالمياً. هذا كان أمراً غير متاح، بل إن الثقافة العربية، والعراقية ضمناً، كانت تخوض سجالات حول تيارات و”موضات” ثقافية كانت قد اندثرت في بلدانها، بينما نتعامل معها بحيوية كبيرة وكأنها ما زالت فاعلة عالمياً.
اليوم بالنسبة للأدباء والسينمائيين والمصوّرين وصنّاع الجمال والإبداع والأكاديميين فإن كلّ الفضاء مفتوح أمامهم، ولا حجّة لأحد بأنه لا يعرف ما هو متداول في النقاش العالمي هذا اليوم وهذا الاسبوع. يمكن لأي أحد أن يشترك في دوريات متخصّصة، أو أن يشتري كتباً على جهاز “الكندل” الخاص به نشرها مؤلفوها هذا اليوم.
كلّ من يبدأ اليوم بمشروعه الإبداعي أكثر حظّاً من جيلنا والأجيال التي سبقتنا بمراحل، ويستطيع أن يقفز بمشروعه، بمساعدة الثورة المعلوماتية، مسافات أبعد مما تحقّق في الإبداع والمعرفة العراقية والعربية.