ما الجدوى من ساعة يدوية في زمن مهدور؟
عبد الزهرة زكي/
واحدة من القصائد المبكّرة في حياتي كانت بعنوان (الإحساس بالساعات)؛ إنها من قصائد قليلة بقيت أحتفظ بها من بين ما كتبته في العقد السبعيني الذي بدأت فيها كتابة الشعر ونشره. لم تُنشَر هذه القصيدة في ديوان حتى الآن، كما هو شأن قريناتها الأخرى من قصائدي السبعينية المنشورة صحفياً حينها. (الإحساس بالساعات) نُشرت، كما أذكر، متأخرةً في مجلة الآداب البيروتية، مطلع عام 1980.
كانت هذه القصيدة تعبيراً قلقاً عن وطأة الشعور بانفراط الزمن حينا وبضغطه علينا حيناً آخر، بالتأثير النفسي الذي يخلفه انصرام الوقت فينا، كبشر. إنها قصيدة غريبة من حيث تعبيرها عن مشاعر شاب ومسؤوليته إزاء وقته، في الشباب عادةً ما يكون الوقت هو آخر ما نفكّر فيه بشكل جاد.
كانت القصيدة تتحدث عن أعباءِ التفكير بالوقت وعمّا يحاصرنا به الوقتُ دائماً من مشاعر متضاربة نبديها نحوه في كل مرة نكون فيها محتاجين إلى فسحة من وقت أو في تلك المرات التي يمضي فيها الوقت ثقيلاً حين نريد له خلالها أن يمضي مسرعاً. هذا التعبير الأخير ليس لي بالضبط، إنه تعبيرٌ قريب من تعبيرٍ آخر ما زال ماكثاً في ذاكرتي من ذلك النص الإنكليزي الذي كنّا درسناه في منهج اللغة الإنكليزية المقرّر للصف السادس الثانوي، كان نصاً عن الخيال العلمي وعن أحد كتّابه المشهورين، أظن أنه كان عن ويلز، وكان قد جاء فيه هذا التعبير المصاغ بلغةٍ مجازية والذي علق في ذهني بنصّه الإنكليزي منذ تلك السنوات، وهذا نصه: (الزمن يطير كلّما أردنا له أن يتأخر، وهو يحبو كلما احتجنا منه أن يمضي مسرعاً). أعتقد أن هذا النص جرى حذفه من المنهاج المقرّر لطلبة الثانويات ولم يعد يدرَّس الآن.
كان يجري التعبير في تلك القصيدة السبعينية عن كل هذا بـ (الساعات) التي تحاصر حياتنا حيثما نكون؛ ساعات على المناضد جنبنا، وأخرى على جدران غرف البيوت والمدارس والمحطات والمستشفيات والمطارات وأخرى على شاشات التلفزيون وسواها مما نصادفه في الساحات العامة وفي الدقات المتكرّرة لها يوميا من خلال الإذاعات، وتختتم القصيدة بالتبرم من الساعات التي تلتصق بنا، إنها ساعاتنا اليدوية التي تلامس نبض معاصمنا ولا تفارقنا.
واقعاً كانت صلتي بالساعات اليدوية مبكّرةً في حياتي. المرة الأولى التي امتلكت فيها ساعة يدوية كانت مع بدء انتظامي في الصف الأول الابتدائي؛ جاءني والدي بهدية كانت (ساعة يدوية) بعدما تأكد من معرفتي قراءة الوقت فيها وكان ذلك قبل ذهابي إلى المدرسة بأيام؛ ” لابدّ لك، حين تكون تلميذاً، من ضبط وقتك بنفسك، لابد أن تتعلم معرفة وقتك من خلال الساعة” قال لي، وخلال جلستين مسائيتين تعلمت منه قراءةَ ساعته اليدوية ومعرفةَ الوقت. لقد كانت ساعةً بأرقامٍ لاتينية قديمة تختلف عن الأرقام الإنكليزية الموضوعة على ساعة منضدية كان قد جاء بها والدي إلى البيت لاستخدامها كمنبِّهٍ وموقظٍ من النوم أكثر من الحاجة إليها كآلة لمطالعة الوقت. لكن الساعة المنضدية وجرسها الصاخب ظلّا يعنيان لي أوان وقت السحور الرمضاني ووجبته التي لا ألذَّ منها حتى اليوم (الرز بالماش مع اللبن الرائب حيناً والدبس حيناً آخر) أكثر مما يعنيان لي أيَّ شيء آخر. تعلّمت من الوالد الأرقامَ برموزها اللاتينية والإنكليزية، وتعلمت قراءة الوقت، وبدأت منذ ذاك الصلةُ بين معصمي اليسرى والساعة.
(الساعات) هي مجازٌ تستخدمه القصيدة لتعبيرها عن الوقت، فيما (الوقت) نفسه يأتي هنا كتعبير عن مشكلة الإنسان مع (الزمن). في العربية يكون التمييز واضحاً بين الوقت والزمن، تستخدم العربية مفهوم (الدهر) كمرادف للزمن (يقول المتنبي: وما الدهر إلا من رواة قصائدي، وواضح أنه يقصد بالدهر الزمنَ)، بينما الوقت في العربية يظل هو مسافة محدودة من الزمن. لكن الفلسفة والعلم لهما شأن أكثر تعقيداً في هذه الصلة المحسوسة وغير المرئية بين المفهومين، كانت نظريات نيوتن والبرت انشتاين مختلفة تماماً في ما بينها، ما زاد في هذا التعقيد الذي لا يهمنا كثيراً هنا. مشكلة القصيدة مع الوقت كانت هي مشكلة الإنسان مع (الزمن النفسي) الذي نرزح تحت وطأته أحياناً كثيرة، و(الحين) هو تعبير عربي آخر عن الوقت.
ولعل من أطرف ما أذكره مما حصل لي مع ساعتي اليدوية الأولى هو سؤالي للمرة الأولى عن الوقت من شخص آخر، مثل هذا السؤال كان امتيازاً يظلّ ينتظرُه كلُّ من هو جديدٌ على حمل الساعة. كان ذلك الشخص السائل هو معلّمي في الأول الابتدائي الأستاذ فتحي صالح بعدما لاحظ الساعة في معصم تلميذه الصغير، ربما أراد اختبار ذلك التلميذ. كانت عقارب الساعة تشير إلى (التاسعة إلا ثلث) لكني بدلاً من هذا التعبير المعتاد والذي نسيته لحظتها أجبته (الساعة ثمانية ونص وعشرة). كنت مع نفسي استغرب من قولنا المألوف (ثمانية ونص وخمسة) ثم ننتهي من (النصف) لنتحول بعدها إلى (التسعة إلا ثلث) وأتساءل (لماذا لا نقول ثمانية ونص وعشرة). ضحك الأستاذ فهمي وأثنى على شيء لم أفهمه حينذاك قبل ان يعلّمني معنى أن نتعامل مع الوقت بما هو أقرب إليه، بعد الأربعين دقيقة نكون أقرب إلى الساعة التالية منها إلى الساعة التي نحن فيها بعد ما مضى الكثير من دقائقها وحين لم يتبق منها إلا القليل.
اختفت الساعة الأولى وحلّت محلها خلال السنوات ساعاتٌ يدوية كثيرة لم تلبث هي حتى تختفي. أذكر في الستينات أن الساعات السويسرية هي ما كانت تحتكر السوق العراقية، بماركاتها الشهيرة، قبل أن تبدأ الساعات الإلكترونية اليابانية بتوسيع فرصها في هذه السوق. كانت آخر ساعة في معصمي قبل كتابة قصيدة (الإحساس بالساعات) هي ساعة يابانية (أورينت) مما كان يصل منها إلى السوق السوداء في البصرة عن طريق الكويت. لم استخدم بعدها أية ساعة إلا قبل سنوات قليلة من الآن.
كان ينبغي عدم العبء بجريان الزمن، التفكير بوقت لا يملك المرء حرية التصرف به هو أشد وطأةً من ضياع الوقت نفسه وإهداره.
التمييز اللغوي العربي الدقيق بين الزمن والوقت لا يقف عنده المرء كثيراً في حياة لا تقدّر قيمة الوقت.
الوقت ليس حيناً من الزمن (الدهر) يجري الحساب له بما يستحق من أهمية، الوقت في حياة كهذه هو تفصيل سائبٌ وضائع في مجرى الزمن العام.
من المصادفات أن قصيدة (الإحساس بالساعات) التي كُتبت في سنوات السبعينات، ربما بعام 1978، نشرت في عدد آب من عام 1980 في مجلة الآداب. لقد كانت المفارقة في إنه الشهر الذي بدأت به الحرب مع إيران والتي لم تهدر عبثاً ثماني سنوات من العمر حسب وإنما أيضاً سفحت عمراً كاملاً في تيار الزمن. لقد كانت القصيدة تتحدث عن عبء الوقت وساعاته، غير أنها نشرت في الحين الذي ما عادت فيه أية قيمة للوقت، بل كان يجب للزمن أن يمضي هادراً ليقف عند حل.
أحياناً كثيرة في سنوات الحرب الثمانينية كنّا ننسى حتى أيام الأسبوع؛ لا شيء يذكّر بالزمن ولا بأيامه وتوقيتاته سوى (إجازةٍ) يظلّ وقت انتظارها يحبو ويتمدد طويلاً وثقيلاً لحين بلوغ أوانها، وحتى إذا ما ظفر بها جنديٌّ ويكون في منزله بين عائلته فإن أيامها وساعاتها تطير وتنفرط من حيث لا يدري، دائماً أظل أتذكر ذلك التعبير الإنكليزي وكثيراً ما تحضر في البال قصيدة (الإحساس بالساعات).
ما الجدوى من ساعة يدوية في زمن مهدور؟