جمعَ بين التكنولوجيا والاقتصاد وعلم النفس هربرت سايمون وابتكار أول برنامج للذكاء الاصطناعي
إعداد وترجمة/ أحمد الهاشم
إنّه عالِم ذو أوجه متعددة. فالمختصون في علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي يعرفون (هربرت سايمون 1916-2001) بوصفه مبتكراً، مع (آلان نيويل)، لأول برنامج للذكاء الاصطناعي. أما الاقتصاديون فيعرفونه لأنه حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد (1978)، فيما يعدّه علماء الاجتماع مبتكر مفهوم (العقلانية المحدودة)، الذي يتعلق بطريقة اتخاذنا القرار في حياتنا الواقعية.
مثلما يشتهر هربرت سايمون بكونه أحد رواد الذكاء الاصطناعي، فإن له إسهاماته في علم النفس المعرفي لا تقل أهمية. فقد كان له دور محوري في تطوير فهمنا لكيفية عمل العقل البشري، ولاسيما فيما يتعلق بالتفكير واتخاذ القرار وحل المشكلات.
المفكر المنطقي
عندما نستخدم محرك بحث أو مساعداً صوتياً، أو برنامج ترجمة إلكترونية، علينا أن نتذكر ذلك البرنامج الذي مكننا من ذلك عبر الذكاء الاصطناعي. تخيل زمناً كانت فيه الحواسيب غير قادرة على التفكير بمفردها، كانت مجرد آلات حاسبة سريعة، تحسب الأرقام بسرعة البرق. لكن عقلين لامعين، هيربرت سايمون وآلان نيويل، حلما بشيء أكبر. أرادا إنشاء حاسوب يمكنه أن يفكر فعلاً. في عام 1956، فعلا ذلك بالضبط، ابتكرا برنامج حاسوب سمّي (المفكر المنطقي)، كان بإمكانه فعلاً البرهنة على النظريات الرياضية، تماماً مثل عالم رياضيات!
كيف كان البرنامج يعمل؟ كان كمن يمنح الحاسوب كتاب ألغاز، وينظر الجهاز إلى قواعد المنطق والمسائل الرياضية، ثم يبدأ في اكتشاف كيفية حلها. كان كالمحقق الرقمي، يجمع الأدلة لكشف القضية. أظهر البرنامج أن الأجهزة يمكن أن تفكر، بطريقة ما. كانت خطوة هائلة نحو إنشاء أجهزة ذكية يمكن أن تساعدنا بطرق متنوعة.
تطبيقات البرنامج
المثال الأول على تطبيقات البرنامج هو التعلم الآلي، إذ تعتمد خوارزميات التعلم الآلي على مفهوم تدريب الأجهزة على البيانات للتعلّم واتخاذ القرارات. والمثال الآخر يتجسد في معالجة اللغة الطبيعية: استفادت تقنيات معالجة اللغة الطبيعية من الأفكار التي ظهرت في البرنامج، مثل تحليل الجمل وفهم المعنى، وهو ما استفادت منه برامج الترجمة. المثال الثالث هو أنظمة الخبراء، إذ استندت أنظمة الخبراء الأولى إلى المفهوم الأساسي نفسه لتمثيل المعرفة واستخدامها لحل المشكلات، الذي جرى تطويره في برنامج (المفكر المنطقي).
بعد عشر سنوات من الدراسة في جامعة شيكاغو، حيث التقى باختصاصيين في رياضيات الاقتصاد، بدأ سايمون في تأسيس علم جديد: علم اتخاذ القرار. كيف نتخذ قراراً في عالم يفتقر إلى اليقين؟ ما هي الستراتيجية العقلية التي يجب اعتمادها لحل مشكلة ما؟ لاحظ أن الإداريين حين يتخذون قراراً لا يتقيدون مطلقاً بالأنماط التي تعلموها في الجامعة، التي تعتمد على حساب المنفعة الحدية الموصوفة في الكتب الدراسية.
كيف نتخذ القرارات؟
تركز أبحاث سايمون على التفكير البشري في المواقف الحقيقية. وبذلك يميز نفسه عن النماذج الرسمية التي يستخدمها الاقتصاديون، إذ يجب علينا التشكيك في الفكرة القائلة إن القرار هو مجرد إجابة محددة لمشكلة معينة ومحددة سلفاً. القرار هو عملية تتشكل فيها المشكلة والإجابة في الوقت نفسه. لا يتحدث سايمون عن القرار بحد ذاته بل عن (عملية اتخاذ القرار).
عندما يتخذ الشخص قراراً، لا تكون لديه جميع المعلومات اللازمة، كما أن عوامل مؤثرة، مثل ضيق الوقت وقلة المعلومات، تجعل من المستحيل حساب الحل الأمثل بدقة. لذلك، فإن عقلانية هذا الشخص تكون (محدودة). وبدلاً من البحث عن جميع الحلول الممكنة للوصول إلى الحل الأمثل، يلجأ الفرد إلى بعض القواعد التقريبية، أو الخبرات السابقة للوصول إلى حلول معقولة، وهو ما أسماه (العقلانية المحدودة).
يضرب سايمون مثالاً متكرراً بلعبة الشطرنج، إذ يستحيل على عقل بشري أن يتصور جميع الاحتمالات الممكنة، التي تبلغ مليارات! لذلك يلجأ اللاعبون إلى طرائق ذكية ومنطقية، بدلاً من اتباع إجراءات حسابية دقيقة تتمثل في مراجعة جميع الحلول المحتملة.
في نهاية الستينيات، انضم سايمون إلى لجنة الخبراء الاقتصاديين للرئيس الأميركي ليندون جونسون ثم ريتشارد نيكسون. وبدءاً من السبعينيات، أدى مفهوم (العقلانية المحدودة) إلى تصور جديد للتفكير. ودعا سايمون إلى إعادة النظر في العلاقة بين علوم الحاسوب والاقتصاد والعلوم المعرفية النفسية، وغيرها من فروع العلوم الإنسانية.