كاسترو يرحل بعد مسيرة درامية عبر حقول الألغام

1٬080

عواد ناصر/

رحل فيدل كاسترو الزعيم الدرامي بامتياز وآيقونة اليسار الراديكالي في عموم كرتنا الأرضية.

زعيم لم يقتل رفاقه “المشكوك بولائهم” كما فعل جوزيف ستالين وصدام حسين. ولم يحتل دولة شقيقة ولا خاض حرباً ضروساً ذهب ضحيتها حوالي مليون قتيل مع بلد جار.
قاد كوبا الجزيرة الفقيرة وسط أقسى العواصف والأعاصير التي كانت لصق ضلع الولايات المتحدة الأمريكية، وبدلاً من إركاعها فإن هاڤانا هي التي مثلت لأكبر بلد إمپريالي في العالم صداعاً موجعاً طوال نصف قرن وفشل دهاةُ السي آي أي في النيل منها وهي الدولة الفتية والفقيرة، وتعايشت مع الحصار الأمريكي تجدد ما موجود، حتى عربات النقل كانت تتهادى في الشوارع مثل جمال هرمة.

الشخصية الكاريزمية

هذا الزعيم الدرامي، والشخصية الكاريزمية، أسقط مع رفاقه أعتى دكتاتوريات الكاريبي بزعامة الكوبي فالغنينشيو باتيستا، بعد ثلاث سنوات فقط من حرب العصابات، وذلك عام 1959، لتجد كوبا نفسها وسط خضم من المشكلات الداخلية والإقليمية والدولية، الأمر الذي وضع الشعب الكوبي وقادته الجدد أمام منعطفات سياسية وعسكرية واقتصادية حادة، في مقدمتها بناء دولة ديمقراطية خلال معارك البقاء وتجاوز المحن، وبدلاً من هذا حاولوا بناء الاشتراكية بروح كوبية بلا مظلات واقية من المطر لأنها ستمطر في موسكو.
كانت الطرق كلها أمامهم مزروعة بالألغام.

راؤول كاسترو الرئيس الكوبي منذ مرض شقيقه الزعيم الراحل فيديل كاسترو، يوم الجمعة الماضي 29 تشرين الثاني نوفمبر، أذاع خبر رحيل القائد الشهير، عبر التلفاز المحلي، وكشف أن مراسيم الدفن ستجري حسب وصية الراحل بأن يحرق جثمانه.

وصفه الرئيس الأمريكي الجديد رونالد ترامب اليوم بأنه “دكتاتور قاسٍ قمع شعبه طوال ستة عقود” وعبر عن أمله بأن يرى كوبا حرة”. بينما أكد الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما “على استمرار الروابط الدبلوماسية بين واشنطن وهاڤانا، وإن أفكارنا وصلواتنا ستكون من أجل الشعب الكوبي”.
وأضاف: “أن التاريخ سيسجل للراحل شخصيته المتفردة داخل كوبا والعالم من حوله، وأن الكوبيين سيجدون لهم في الولايات المتحدة صديقاً وشريكاً”.

600 محاولة اغتيال

على أن العقود الستة التي قاد فيها كاسترو شعب الجزيرة الصغيرة، الفقيرة، شهدت أكثر من ستمئة محاولة اغتيال لهذا القائد بتخطيط من الإدارة الأمريكية وبإشراف السي آي أي.
أصدقاء كاسترو في القارة اللاتينية وخارجها من زعماء العالم وقادة اليسار الأممي من مختلف تدرجاته وصفوه بـ “البطل الأسطوري” والسكين العنيد في خاصرة أعتى قلاع الإمبريالية العالمية، عدوة الشعوب.

وفي برقية تعزية بعثها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر فيها “عن احترامه لكاسترو كرجل دولة مميز ورمز لحقبة في تاريخ العالم”.

بينما أبن عدد من زعماء أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا فقيد كوبا وحركات التحرر في العالم.

عبر المسيرة المسلحة في سلسلة جبال ووديان سييرا مايسترا الطويلة لم تنكسر الأحلام الرومانسية تحت حماية البنادق الثائرة، لكن للسرديات الكبرى التي استحكمت بعقول وقلوب الملايين من الناس، بعد تحقق الاشتراكية في سدس الأرض (الاتحاد السوفييتي)، منطقاً مختلفاً بعد انهيار ذلك السدس الأحمر، وصار الالتزام بذلك التاريخ، أو التعاطف معه نوعاً من الموقف الأخلاقي الذي لا يريد التفريط بخيارات كانت أقرب إلى الأحلام منها إلى الحقيقة، خصوصاً بعد تراجع سرديات التاريخ لصالح عولمة الجغرافيا وهي تزحف بشكل متغول للاستحواذ على العالم.

حقبة مجهولة

كوبا، اليوم، أمام حقبة سياسية مجهولة، فلا نيكيتا خروشوف سيبعث بصواريخه النووية إلى خليج الخنازير، عندما نشبت تلك الأزمة الخطيرة بين المعسكرين الشرقي والغربي عام 1962، وليس ثمة رئيس أمريكي، مثل باراك أوباما سيتيح للعلاقات الدبلوماسية فرصة للعمل بهدوء إزاء الجزيرة الصغيرة الجارة.

ومثلما تنفتح هاڤانا على أكثر من مصير واحتمال تتعدد بورتريهات الزعيم الرمز الذي شهد حقبة من القرن العشرين من أكثر الحقب توتراً ومواجهة خلال الحرب الباردة، وكان من أكثر زعمائها محورية وتأثيراً وإثارة للجدل.

سؤال الحرية والعدالة سيظل قائماً، إلى جانب أسئلة أخرى لا تقل تعقيداً، بشأن شكل اليسار المعاصر وجوهره، وما مشروعية التحالفات والصداقات بين الزعماء، وإن اختلفوا آيديولوجياً، كما حدث في سبعينات القرن الماضي بين بغداد وهاڤانا، عندما زار صدام حسين كوبا ليستقبل فيها كزائر كبير ومحترم بينما كانت أجهزة أمنه تلاحق الشيوعيين العراقيين وأصدقاءهم في العراق، حتى قيل، آنذاك، أن الشيوعيين العراقيين عندما عاتبوا رفيقهم فيديل كاسترو رد بقوله: أنتم تحالفتم معه قبلنا، والآن تريدوننا أن نعاديه؟؟

من الطبيعي أن تتعدد بورتريهات شخصية ليست محايدة بشأن الموقف من العالم. لكن حتى بعض أعدائه شهدوا للرجل دوره التاريخي وشخصيته العنيدة وهو يعبر حقول الألغام نحو أخطر حلم رومانسي: بناء الاشتراكية.