حكاية الشموع بين الزينة والنذور الدينية

19

علي لفتة سعيد
لم يكن الشمع مجرّد إضاءة في مكانٍ مظلم، في الكهوف أو في المساءات الطويلة، أو إنارة الأماكن المغلقة التي لا يصلها ضوء الشمس، بل تحوّل لدى الكثير من الناس إلى دلالات مختلفة، منها العبادة، ومنها الشعر، ومنها التغزل بالرقة، وحتى في الظل الذي يكونه ضوء الشمعة. فمن أين جاء هذا الارتباط بين الواقعي والمخيالي لهذه الشمعة، ولماذا ارتبط حضورها بالبعد الديني لدى كثير من الأديان وممارسة الطقوس؟
التاريخ والصناعة
يقول الباحث حسين أحمد الخضيّر إن “أول من استخدم الشمعة هم اليونانيون القدامى، تكريماً لميلاد الآلهة (آرتميس)، وكانت توقد في اليوم السادس من كل شهر قمري.” ويضيف أن “المصادر تؤكد كذلك أن الرومان قاموا بصناعتها منذ نحو 5000 عام ق.م، أما في الصين، فقد ظهرت خلال فترة حكم (تشن) في الفترة 221 – 206 ق.م، إذ أشارت الآثار التي عثر عليها المنقبون إلى وجود الشمع المصنوع من دهن الحوت. وفي الهند كان الشمع يصنع من مستخلص القرفة المغلية.” موضحاً إنه في عام 1300 م شهدت لندن نشوء أوّل شركة لصناعة الشمع المعمول من الشحم الحيواني. وفي بداية القرن الثامن عشر الميلادي، تحوّلت صناعة الشمع بالاعتماد على زيت الحوت. وفي عام 1920م، ابتكر الإندونيسيون آلة حديدية لصناعة الشمع، الذي تحول إلى ما هو معروف الآن.
روح الأمل
يشير (الخضيّر) إلى أن صناعة الشمع تعتمد على ثلاثة مصادر، أولها شمع البرافين، وهو الأكثر شيوعاً، كونه أقل كلفة ويتصف بسرعة الذوبان، إضافة إلى إمكانية تشكيله السريعة وسهولة اكتسابه اللون والرائحة. وثانيها الصويا، وهو مستخلص من فول الصويا، يمتاز بسهولة التنظيف ويمتلك قابلية التجدد. وثالثها شمع العسل، ويعتمد في إنتاجه على بقايا خلايا النحل، ويمتاز برائحته الزكية وتنقيته للهواء. ويشير إلى أنه ليس للشمع شكل محدد، فبعض الشموع تحمل صورة تمثل الحدث الذي صُنعت من أجله، فأصبحت الشمعة علامة للزينة، كما أنها مخصصة للفرح، ومنها ما يستخدم للإنارة. والشمعة توقد في العديد من المناسبات، مثل الزواج وأعياد الميلاد والجلسات الرومانسية التي تعقد بين الأحباب، كونها تمثل روح الأمل بين المحبين. كما كان للشمعة الفضل في تجمّع العائلة حول المائدة عندما تنير المكان وتشاركهم في تناول الطعام واحتساء الشاي والسهر لتمضية الوقت.
نذور الكنيسة
مثلما هو موروث ديني في استخدام الشمعة للدلالة على الهدوء والتضرع والنور، فهو أيضاً جزء من موروث النذور لدى الكثير من العائلات. يقول الباحث حسين الوزني إن “بعض العائلات تنذر بضع شموع إلى مقام السيدة مريم العذراء، وترسلها إلى الكنيسة لتوقدها من أجل طلب حاجة، أو إيفاءً لنذر سابق وقع على أحدى النسوة.” ويضيف: “ويذهب بعضهم في يوم الجمعة، أو في إحدى المناسبات الخاصة، إلى النهر ليوقدوا مجموعة من الشموع تمثل عدد أفراد العائلة، ويضعونها على لوح خشبي أو (كربة) تكون بالقرب من المقامات الواقعة على ضفته.” فضلاً عن أن للشمعة رمزية في الأفراح والأتراح. فقد كان أهل المتوفى يأخذون الشمع ويذهبون به إلى قبر المتوفى ليوقدونه ويضعونه على القبر في ليلة وفاته.
ليلة الاستشهاد
يعود الباحث (الخضيّر) ليتحدث عن الشمعة في الموروث الحسيني، ويشير إلى أن كثيراً من المواكب الحسينية تشعل الشموع في مواكبها. ويقول: “في قبة القاسم كانت توضع كمية من الشموع صغيرة الحجم توزع على محيط القبة من أجل تزيينها وإحياء رمزية مكانة القاسم بن الحسن (ع)، الذي استشهد مع بقية شهداء الطف، إضافة إلى الإنارة التي تضيء لهم الدرب.” ويمضي بقوله إن “هناك حدثاً آخر للشمعة في المواكب الحسينية، ففي آخر النهار من يوم العاشر من محرم تتوجه المواكب التي تمثل أطراف المدينة إلى المخيم الحسيني، حاملين بأيديهم الشموع، يجوبون الشوارع المؤدية إلى المخيم، وعند دخولهم يتخذ كل موكب جهة من الباحة الخارجية، ويجلسون على شكل حلقات وأمامهم الشموع وهي متقدة، يستمعون إلى المراثي الخاصة بأهل البيت، ويستمر بقاؤهم لساعة من الزمان، ثم يغادرون المكان. ويعتبر هذا التقليد من المساهمات الرمزية التي يقيمها أهالي كربلاء في إحياء ليلة الاستشهاد، التي تسمى (شامي غريبون)، ليلة الوحشة مع أهل البيت.”