سرديات الأبناء المتمردين الآباء يفضلون الأفرشة النظيفة

20

محمد غازي الأخرس

عن علاقة فرويد بأبيه، يكتب أريك فروم أنّ فرويد كان يتبوّل في فراشه وهو طفل، وكان والده يوبّخه. في ذات ليلة، فعلها كالعادة، وإذ انتهره أبوه، أجابه: لا تقلق يا أبي، سأشتري لك سريراً جميلاً أحمر اللون. نتحدث عن فرويد طفلاً، وليس أستاذاً وعالم نفس. وفي تفسيره للعبارة، يعلّق فروم أنّ فرويد تقمّص في جوابه شخصية أبيه وعكس المعادلة رمزياً. بدل أن يخاف، تصرّف بثقة وخاطب أباه كما لو كان هو ابنه، ووعده بسرير جديد.

تقودنا هذه القصة إلى فكرة أنّ تقريع الأب ليس سوى ردّة فعل يقترفها الابن رمزيّاً، وتأتي على شكل تقمّص لشخصية الأب يستبق به الطفل حلمه الأعظم الذي يراود لاوعيه العميق، وهو وراثة الأب بكلّ ما يملك. لا يتعلق المفهوم بالأب الفعلي فحسب، بل يشمل الأبوّة الرمزيّة عموماً، كما في أبوّة الأمّة والجماعة والعشيرة والطائفة للفرد. ويصل الأمر إلى أبوّة التراث والأشكال الفنية والأدبية والأفكار والقيم، وممارستها الاستبداد على الأبناء. أي أننا أمام تمثّلات لا تُعد لفكرة الأبوّة، وهي تمثّلات تحتمل فكرة حلول الابن مكان الأب بعد قتله رمزياً للاستحواذ على قداسته وتحطيم التابوات المرتهنة بوجوده.
إن علاقة هذه الفكرة بالثقافة العراقية واضحة، وتمثلتها الأجيال الثقافية منذ الستينيات، فكان أن جهد الستيني في قتل أبيه الخمسيني، ثمّ مارس السبعيني العقدة ذاتها، فراح يقتل أباه الستيني. كذلك فعلها الثمانيني ضد السبعيني، والتسعيني ضد سابقيه. وفي جميع هذه الصراعات، تلتبس العقدة النفسية بالظاهرة الأدبية وتتجسد بها، فيصاغ مفهوم التمرّد على الأشكال الأدبية القديمة بالتوازي مع التمرّد على أشكال الانتماء القديم التي ربطت أبناء الأجيال بهوياتهم وجماعاتهم وحتى عائلاتهم.
مزاج اللامنتمين
مما أحتفظ به في دفاتر ملاحظاتي الكثيرة ما كتبه الشاعر شريف الربيعي، في شهادته الرائعة بعدد مجلة (فراديس) النادر. لقد وصف مزاج الستينيين الثقافي والنفسي بالقول إنّه في تلك الخصوبة، تفكيراً وحلماً وقهراً وتوجهاً نحو ثقافة أوعى، “ظهر لنا، نحن أبناء الستينيات، كولن ولسن، وأصبح كتاب (اللامنتمي) إنجيل حالات من التمرّد والخروج على نمط العائلة. كيف كنّا نفسر اللاانتماء؟ كنّا نعيشه، أو نحاول أن نسلك في حضوره ممارسة حياة، خروجاً على المألوف اجتماعيا.” ويثبت الشاعر أنور الغساني الرؤية ذاتها بالقول إنّه “لم يكن هناك تأطير فكريّ واضح لأيّ شيء، وفي النهاية كان التمرّد هو الدافع، المنهج والنتيجة، كنّا نعيش أزمة قيم، لم نكن نريد تكريس أيّة قيمة.”
قتل الأب
نعم، مثّل الستينيون جيلاً شبّ وترعرع وسط جو خمسيني صارم، كما يقول وليد جمعة، في شهادته بكتاب (انفرادات)، الذي جمعه عبد القادر الجنابي. يقول جمعة إن هذا الجيل اكتشف أنّه “لم يعد ينتمي إلى هذه العائلة الرتيبة العادات. إلى هذا الموقع الجغرافي بالضبط، فزحف خارج إطار هذه الدائرة الضيّقة هارباً من جو الخمول والتقليد إلى حيث بدأت بغداد بالتمدّد.”
لكن، هل كانت نزعة قتل الأب نزعة ستينية فقط؟ كلّا، إنّها أبعد من ذلك، كونها استمرت في الأجيال التالية، وثمّة عشرات، بل ربما مئات الوثائق التي تراشق بها المتصارعون من أبناء الأجيال وفقاً للفكرة المذكورة آنفاً. وثائق من الكثرة بحيث إذا أردنا الخوض فيها لاحتجنا كتاباً كاملاً. مع هذا، يمكن أخذ عينات قد تبدو الأقل حدّة في اللغة والأفكار. ففي تقديمه لملف شعري اشترك به عدد من شعراء الثمانينيات عام 1988، يكتب زاهر الجيزاني أنّ “وسطنا الأدبي يشهد اشتباكاً، ولم يذق نعمة الحوار منذ أربعين سنة.” ثم يفتح النار قائلاً إن “ثمّة أجيالاً شعرية انتهت تماماً، ولكنها لا تقرّ بذلك، وتريد أن تحتاز كلّ شيء، وأنّ وقتها هو الوقت الذهبي، وأنّ أوقات غيرها لا تساوي شيئاً.” لا ينسى الجيزاني جريرة النقد الذي ساير هذا الاستحواذ وتحوّل إلى أحد مصدّاته، فأهمل الأجيال الجديدة عن سابق إصرار وتصميم.
إهمال نقدي
الاتهام هنا واضح، وعملية القتل متبادلة كفعل وردة فعل. دائماً، هناك مؤسسة ثقافية كاملة تقف وراء قتل الجيل اللاحق، مؤسسة تضمّ منابر النشر وإدارة ثقافة. ويصل الأمر إلى النقد الذي دأب على الاهتمام بالأجيال الميّتة، لا لشيء سوى كونها تهيمن على العملية الثقافية إنتاجاً وترويجاً. يعتقد الجيزاني أنّ هذا النقد “يكتب خارج وظيفته الطبيعية، فهو نقد ينافق ويقلب الحقائق، وأصبحت هذه العلامة علامته بامتياز في أوساط الأدباء والمثقفين عموماً.”
لغة الجيزاني هذه لسوف تستعاد عند الثمانينيين، الذين بثوا أفكارهم المتمردة في عدد كبير من الشهادات التي نشروها. راجعوا مثلاً العدد الخاص بتجربتهم من مجلة (أسفار) عام 1989، فضلاً عن ملفاتهم التي نشروها في مجلة (الطليعة الأدبية). كان العنوان المشترك لكل تلك الشهادات: إنهم يقتلوننا بالتهميش والأستذة، يطلقون علينا النار بالإهمال النقدي وإغلاق منابر النشر في وجوهنا. ومثلما فعل الثمانينيون، سوف يفعل التسعينيون بطريقة أخرى.
نعم، منذ الخمسينيات حتى نهاية القرن العشرين، اختلف الآباء، بينما عبارة فرويد نفسها تتكرر على مسامع أبيه: لا تقلق يا أبي، سأشتري لك سريراً جميلاً أحمر اللون.
الأفرشة النظيفة لا تصلح إلا للأولاد العقلاء!