حكاية صورة
مقداد عبد الرضا
الصورة هي اكتساب التقلبات، تقلبات مختلفة، طريقة للحصول على الملامح، ملامح الأشياء، صوت اللحظة، الصوت الذي يرسم فضاء الضجة، الذكرى، هو في كل الأحوال صوت، تعقبه صورة تتدلى من مساماتنا.
تعال نتصفح كتاب دليل المملكة العراقية 1935- 1936، لنرى ذلك الحبور الذي كانت تسبح فيه البلاد، فلولا التدافع لكان العراق، وبعيداً عن المبالغة، واحداً من أفضل بلدان الأرض. من ذلك الحبور تعلم الطفل، أول ما تعلمه، أن يؤسس مكتبة له تنمو مع نموه، والأب بعد أن تشبع من مكتبة طفولته، راح وابتاع جهاز كرامافون، ومعه آخر ما استجد من أسطوانات عربية وعالمية كي يتطلع إلى النجوم ليلاً ويشنّف أذنيه بما يمنحه ذلك الدوران العجيب من أنغام كي ينهض صباحاً يدندن بما سمعه ليلة الأمس، ويقول طاب الصباح يا أهل الدار ويا أيتها البلاد الجميلة. الإعلان كان مفتاح التسوق، سبعة محال كانت تستورد هذا الجهاز الراقص في زمن الكتاب الذي ذكرناه.
اتحداك إن مررت بهذه البراءة وهذا الجو الحميم ولا يرف قلبك للّعب معهم وأنت بهذا العمر المتقدم، وأن تقولها بكل شغف (بيك وبالدارة وخلط وأصّد)، سيرف قلبك وتعود إلى حيث المراعي البريئة. اترك هذا، ألم تتعلم كيف تميز الألوان الضاجة بالحياة من خلال ما يخفي الزجاج؟ ألم تكن لديك الرغبة في كسر الحاجز الزجاجي المدور لتحصل على تلك الألوان؟ ألم تضع (الدعبلة) أمام عينيك وتوجهت إلى شمس الله وتراقب حدائق لانهاية لها من الألوان؟ ها أنت تقف الآن ترجو أن يمنحك أبوك بعض القطع النقدية لتهرع وتشتري تلك الخرخشات والصوت المتراقص، وتعلن أنك ستفوز، وتروح في إغفاءة القيلولة. الصورة في منطقة الكرخ للصحفي والمصور علي الكناني.. أرشيفي الشخصي.
ما إن تطالع هذه الصورة، حتى تقفز إلى ذهنك أغنية عبد العزيز محمود (منديل الحلو)، لكن بعفوية متناهية تحاول أن تستبدلها وتغني (زنبيل الحلو)، هذا الوجه الطافح بالخير والعافية، وهذا الرأس المستقر بين كتفين يحمل عائلة بكاملها. الزنبيل بيت الفقراء، وديوان محبتهم ولمّتهم (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)، ومن غير الله سند للفقراء؟ هم يحملون جهدهم ويضعونه فوق البساط، ويتحلقون حوله وقلوبهم تغني وتتصايح، ويطعم أحدهم الآخر، ثم يستسلمون للحكايات، الحكايات التي تقول افتح قلبك للنور وتطلّع إلى أعلى، فالرأس الذي يحمل الطعام للفقراء لن يخذل أبداً، ولن ينتكس. الصورة للمصور الراحل عبد علي مناحي.
هذا العمود الذي ينتصب في الأعلى ويتطلع من خلال منظار الكاميرا الـ (Viewer) بعين واحدة، مثلما كان يولسيس يفعلها، ببهجة لا تضاهى، يشاهد ألعاباً يقوم بها سحرة بواسل، هو مدير التصوير الراحل نهاد علي (أبو الطيب)، طيب السريرة والقلب، وصاحب أهم الإنجازات في تاريخ السينما العراقية. يوم أن ذهب لمعاودة الطبيب في أواخر أيامه، قال له عد إلى بيتك واختر سريراً تحن إليه لتغفو. فعلها، عاد إلى البيت واستل آلة القانون التي صنعها بنفسه، وراح يعزف إلى آخر إغفاءة. ما يميزه أن له حاسة شم في عينيه، ويعرف الجو مثل طائر الكركي، يتطلع إلى أعلى ويحدس. في يوم مشمس فعلها وانحنى وقال (ماكو تصوير راح تمطر.. فركش)، البعض لم يصدق لكن بعد قليل انهمر المطر.