رمضان في بغداد.. بين الأصالة والحداثة

57

ريا عاصي /

عندما يحلُّ شهر رمضان في بغداد، تتغير ملامح المدينة كأنها تستعيد شيئاً من هويتها القديمة، برغم كل التغييرات التي عصفت بها. يبقى شهر رمضان في بغداد ليس مجرد شهر للصيام، بل هو طقس اجتماعي وثقافي متوارث، يشكّل جزءاً من ذاكرة البغداديين.
طقوس عائلية
على رغم من محاولات الحفاظ على التقاليد، فرضت الحداثة إيقاعها الخاص، وبدأت تبرز مظاهر جديدة في رمضان، حتى أضحت تقاليد حديثة، منها إعادة تزيين واجهات المنازل ودواخل البيوت بالفوانيس والهلال الرمضاني، والشخصيات الكرتونية التي تظهر في فواصل الإعلانات التلفزيونية. هذه التغييرات برغم ارتباطها بالحداثة، تعكس فرحة العراقيين في استقبال الشهر الفضيل، الذي يظل وقتاً تتجمع فيه العائلات العراقية على المائدة، حيث تتنوع الأصناف بين الأطعمة التقليدية القديمة والجديدة. وتتداخل صنوف الطعام العراقية والعربية والأجنبية عبر الإنترنت ووسائل الإعلام، ما يساعد على تمازج عادات الشعوب الإسلامية المختلفة.
أم علاء، التي تبلغ من العمر 72 عاماً، تتذكر أجواء رمضان في الماضي قائلة: “زمان، كانت أجواء رمضان مختلفة تماماً. كنا نجتمع كل يوم في بيت العائلة الكبير، حيث تحضر النساء الأطباق البغدادية التقليدية، وكان الرجال يسهرون في المقاهي يلعبون الدومينو والطاولي. اليوم، تغير كل شيء، أصبحت العائلات صغيرة، والتواصل عبر الهاتف أكثر من الزيارات، حتى أن بعض الشباب يفضلون الإفطار في المطاعم بدلًا من البيت.”
لم يقتصر التغيير على الطعام فحسب، بل حتى ديكورات المنازل البغدادية تطورت، فالفوانيس القديمة والشموع أُدخلت عليها الأضواء الحديثة مثل (الليد) والديكورات التكنولوجية الأخرى التي تبث الحياة في ليالي رمضان.
موائد بنكهات متنوعة
تمتاز المائدة الرمضانية البغدادية بتنوع أطباقها، حيث اعتاد البغداديون على الإفطار بحبات التمر وقدح اللبن الرائب (الشنينة)، أو بقطع من (المدكوكة) التي كانت تُصنع من التمر والسمسم. كانت العادة أن يُدق التمر الناشف مع السمسم لصنع كرات لذيذة، لكن اليوم نجد أصنافًا عديدة مغلفة بشكل جميل من المدكوكة، التي دخلت التكنولوجيا في صناعتها باستخدام ماكينات ضخمة.
ثم تبدأ الوجبة عادةً بالشوربات الدافئة التي تفتح الشهية، التي تتسيدها شوربة العدس، ثم تليها الأطباق البغدادية الشهيرة مثل الدولمة والمقلوبة والهريسة ورز الباقلاء والبرياني وتشريب اللحم، وبالتأكيد السمك المسكوف. في الآونة الأخيرة، بدأت هذه الصنوف تتعدد لتشمل المندي اليمني والطاجن المغربي والحمص الفلسطيني والمسقعة المصرية والتبولة اللبنانية وغيرها من الأطباق العربية.
أما الحلويات، فهي مزيج من الأصالة والحداثة، حيث تتربع البقلاوة والزلابية وزنود الست عرش الحلويات العراقية، وتأتي من بعدها الأصناف الحديثة أو المأخوذة من مطابخ عربية أخرى مثل القطايف والعوامات والكنافة، التي تزدهر وتصبح وجبة مهمة بين الإفطار والسحور.
الخيمة الرمضانية
في السنوات الأخيرة، أصبحت (الخيمة الرمضانية) جزءًا لا يتجزأ من المشهد الرمضاني في بغداد، حيث تُقام في الأندية والمطاعم، وتوفر أجواءً خاصة للعائلات والأصدقاء. تمتاز هذه الخيام بتصميمها التقليدي المستوحى من التراث البغدادي، حيث تُضاء بالفوانيس والمصابيح الملونة، وتُقدَّم فيها وجبات السحور مع عروض فنية وتراثية تشمل عزف الموسيقى العراقية والموشحات الرمضانية. كما تعكس الخيم الرمضانية التقاء الماضي بالحاضر، حيث يجتمع البغداديون في أجواء تراثية تحاكي الحياة القديمة، إلا أن الإضافات العصرية جعلت هذه التجربة أكثر جذباً لأفراد الأسرة كافة.
حيدر الساعدي، صاحب مقهى تراثي، يوضح قائلاً: “قبل سنوات، كان الناس يقصدون المقاهي التقليدية بعد الإفطار، يجتمعون حول قدح الشاي المهيل ويلعبون الطاولي والمحيبس. أما اليوم، فقد أصبحت الخيام الرمضانية والمطاعم الفاخرة تستقطب الشباب والعائلات، حيث يجمعون بين الطعام والفعاليات الفنية. وبرغم ذلك، لا تزال بعض المقاهي تحافظ على زبائنها من كبار السن وعشاق التراث.”
عادات نسائية حديثة
في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر تقاليد جديدة بين النساء البغداديات خلال شهر رمضان، من بينها (الغبقة) والبازارات. والغبقة هي جلسات تقام بين الإفطار والسحور، حين تجتمع السيدات في أجواء خاصة تتخللها الأغاني التراثية للمربع البغدادي، ويرتدين (البشتات) والعباءات المرسومة، ما يضفي طابعاً تقليدياً مميزاً على هذه الأمسيات. وهي تقام في صالات أو مطاعم أو مولات، وفي بعض الأحيان في المنازل. كما انتشرت فكرة (البازارات الرمضانية)، حيث تعرض النساء منتجات يدوية، وملابس، وإكسسوارات في تجمعات خاصة، ما يضفي لمسة اقتصادية واجتماعية جديدة على الشهر الفضيل.
سارة الجبوري، التي تبلغ من العمر 35 عامًا، تقول: “الغبقة الرمضانية أصبحت فرصة رائعة لنا كنساء للاجتماع والاستمتاع بأجواء الشهر الفضيل بطريقة عصرية. نرتدي البشتات المزخرفة، نأكل الحلويات الشرقية والغربية، ونلعب المحيبس وسط أجواء من الضحك والمنافسة. كما أن البازارات الرمضانية تمنح النساء فرصة لعرض منتجاتهن المنزلية، وهذا خلق مجتمعاً اقتصادياً صغيراً داخل رمضان.”
شهر الحياة
للحداثة ابتكاراتها، إذ صارت تطبيقات التوصيل بديلاً عن التجمع في الأسواق، وأصبح المسحّر يعتمد على مكبرات الصوت بدلاً من الطرق على الأبواب. حتى المسلسلات الرمضانية باتت تستهلك الكثير من وقت العائلة على حساب الزيارات التقليدية.
لكن، وبرغم كل هذه التغييرات، يظل رمضان في بغداد شهراً نابضاً بالحياة، حيث تختلط فيه روائح الماضي بنبض الحاضر، ليبقى هذا الشهر هو الرابط الذي يجمع البغداديين برغم اختلاف الأزمنة.