شهر الخير والبركات سُفرة الكاظمية المقدسة.. كرمٌ عراقي وتكافلٌ اجتماعي

45

سجى رشيد /

مع حلول شهر رمضان، يشهد شارع الشريف الرضي في الكاظمية المقدسة واحدة من أقدم وأبرز تقاليد الضيافة، حيث تُنصب مائدة الإفطار الجماعي التي تمتد لعشرات الأمتار، مستقطبةً الصائمين من مختلف المناطق.
هذه المبادرة، التي يحرص الأهالي والخيّرون على إقامتها سنويًا، تعكس روح العطاء والتكافل الاجتماعي، إذ يجتمع المتطوعون لإعداد وتوزيع وجبات الإفطار في أجواء تسودها الألفة والمودة. لكن ما سر استمرار هذه المائدة على مدى السنوات؟ وكيف يتم تنظيمها لتستوعب الأعداد الكبيرة من الصائمين؟ ومن هم الداعمون الرئيسون لها؟
إفطار الزائرين
السيد علي العاملي، أحد خدام المائدة، يوضح في حديثه لمجلة “الشبكة العراقية” أن الهدف الأساس من اقامة مائدة الإفطار الجماعية هو ابتغاء الثواب لأموات المسلمين، وإفطار الصائمين ذوي الحالة المادية الضعيفة الذين يتواجدون على المائدة خلال شهر رمضان المبارك. مضيفاً أن إقامة هذه المائدة يعود لأكثر من 20 سنة، إذ يتم تنظيمها من بداية شارع الشريف الرضي حتى نهايته، وقد كانت في البداية مقتصرة على توزيع الطعام فقط، الى أن توسعت لتكون مائدة بهذا الحجم.
يضيف العاملي: إن تمويل المائدة يجري عن طريق جهود المتبرعين الخيرين من داخل وخارج العراق لوجه الله تعالى، مؤكداً أنه في الأيام الأولى للشهر الكريم يكون عدد المحتاجين الموجودين على المائدة قليلاً بين 600 الى 700 أو 800، ويزداد بعد اليوم الثالث والرابع والخامس ليصل من 1500 الى 2500 شخص على المائدة الواحدة.
قصص إنسانية
يؤكد السيد العاملي أن إقامة هذه الموائد تحمل في طياتها الكثير من من القصص الإنسانية، فمثلاً نشاهد عدداً من الأشخاص الذين تجري استضافتهم على هذه المائدة وهم يتضرعون الى الله بالدعاء في أنفسهم أن يمّن عليهم بتلبية بعض حاجاتهم، فنراهم يعودون في السنة الثانية وقد أجاب الله طلبهم. مبيناً أن “المائدة ليست مجرد طعام نقدمه للصائمين، بل هي رسالة محبة وتكافل بين الجميع، لذا نشعر بسعادة غامرة عندما نرى الزائرين والمحتاجين يجتمعون حولها ويتبادلون الدعاء والابتسامات، وهذا ما يدفعنا للاستمرار في هذا العمل الخيري.”
محبة وتسامح
أما حسين العبودي، أحد زوار المائدة، فيقول: “تعني هذه المائدة لي الكثير، فهي ليست مجرد طعام نتناوله، بل لحظة نشعر فيها بالأمان والكرامة. أتيت إلى هنا لأن ظروفي المادية لا تسمح لي بتأمين إفطار جيد كل يوم، لكن عندما أجلس بين الناس على هذه المائدة، أشعر وكأنني بين أهلي، فالقائمون عليها يعاملوننا باحترام، ولا نشعر بأي فرق بين غني وفقير. وهذا هو رمضان الحقيقي، شهر المحبة والتراحم بين الجميع”.
قيمه مجتمعية
فيما يرى الباحث الإسلامي محمد البخاري أن موائد الإفطار المجانية تمثل قيمة إنسانية عليا تجعل الإنسان يشعر بوجوده واحترامه واهتمام الآخر، ما يمنحنا شعوراً بالأمان النفسي، فهي توفر الأمن الاجتماعي، بالإضافة الى طابعها الديني، كما أنها حالة نبيلة يحث عليها الإسلام، فهناك نصوص قرآنية تؤكد على الإكثار من هذه الظاهرة، فالإسلام فيه أبعاد حضارية عظيمة في بناء الأواصر الإنسانية، أطرها بنصوص وأحاديث نبوية، كما في الحديث الشريف (مَن فطرَ صائِمًا كانَ لهُ مِثلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنه لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجر الصَّائِم شَيْئًا)، وهذا العمل الخيّر لايقتصر على شهر رمضان المبارك، بل جميع الأشهر، كما قال الرسول الأكرم عندما سئل عن خير الأعمال: (تطعم الطعامَ، وتقرأ السلامَ، على من عرفتَ ومن لم تعرف).
صورة حسنة
يضيف البخاري: يمتلك المجتمع العراقي وعياً جميلاً في إعداد مثل هذه الظواهر والمناسبات الدينية، وهي صورة حسنة وترجمة واضحة لهذا الوعي، إذ تعمل موائد الإفطار المجانية على سد جزء من احتياجات مجموعة او فئة تحتاج الى هذه الخدمة، أو هذا النوع من التواصل العالي، مع وجود عامل الود الإنساني تجاه من يقدم هذه الموائد، وظاهرة إطعام الصائمين أصبحت سمة مميزة للشعب العراقي المعروف بكرمه الكبير كما أنها تحمل دلالات جميلة.
ويذكّر البخاري بأن الرسالة التي يجب أن تصل الى أصحاب الموائد هي الشكر والتشجيع على الاستمرار والديمومة في العطاء، وأن الله سبحانه وتعالى يشمل برعايته من يقوم بالصرف على الموائد. مضيفاً: وأخيراً لا يسعني هنا سوى أن أوصي شبابنا بالدخول في هذه الخدمة الجليلة، سواء في الجانب المادي، أم في العملي، من إعداد الطعام والتنظيف، وهي بالتأكيد سترفع من شأن العراق عالياً في البعد الإنساني.