
شـاشـة الشبـكـة: دراما العنف.. دراما الجريمة
رضــا الـمـحـمــداوي /
كيف يتسنى للمؤلف الدرامي العراقي أن يُقرّب النص الدرامي (المُتخيل) من الحياة والواقع العراقي المُلتهب، بجميع أسبابه ونتائجه وتداعياته المستمرة، التي لا تستقر على حال، ليكون مُعبراً عن هموم الإنسان العراقي وتطلعاته، وما يفرضُ عليه ذلك الواقع من ضغوطات وما تتركه طبيعة الحياة الصعبة والقاسية التي يحياها من آثار ونتائج؟
من المعروف عن الفنون الدرامية بأجمعها، والسينما والدراما التلفزيونية على وجه الخصوص، أنها لا تحاكي الواقع الثابت والساكن والمستقر فقط، وإنما تحاكي الحياة بمعناها العام والشامل، التي يحتويها الواقع المُتحرك والمُتغير دائماً وبجميع احتمالاته، وليست الحياة كما حدثت فقط، بل بكل التوقعات والافتراضات الحياتية – الإنسانية التي من (الممكن) أو (احتمال) أن يكون الإنسان موجوداً فيها.
وبذلك، فإن المؤلفين، وبواسطة نصوصهم المكتوبة على الورق، إنما يُقدمون (مثالاً) واقعياً مُفترضاً، فيه الكثير من القيم والمبادئ والأخلاق، بما يعتمل فيه أو ينطوي عليه من موقف فلسفي، ومن ثم تأتي بعد ذلك الاجتهادات والرؤى الفنية للمخرجين والفنانين، المتجسدة على الشاشة، لتتيح لهم إمكانية تقديم الحياة وصورها الإنسانية (المُتخيلة) بأقرب صيغة ممكنة من صور الواقع نفسه، التي تحيلنا بدورها إلى مصطلح أو مفهوم (الواقعية) ومقارباته المتعددة.
وفي هذه المقاربة النقدية للدراما العراقية نجد التباين والاختلاف واضحين في درجة الاقتراب، أو الالتصاق، أو الغوص، في طبقات الواقع العراقي الصعب والمُعقد، ذلك لأن الأصل أو الجذر الحقيقي يكمن في قدرة أو إمكانية المؤلف الدرامي نفسه في كيفية رصده لذلك الواقع، وزاوية النظر الخاصة، وفي طريقة التقاطه وتناوله، ومن ثم بعد ذلك تأتي المعالجة الدرامية الإخراجية للموضوعة الاجتماعية المطروحة في العمل الدرامي بوصفه نصاً مقروءاً سينتهي في المآل الأخير إلى سرد مرئي بنسخته المعروضة على الشاشة.
خطاب درامي جديد
لقد حملَ لنا الضخ الدرامي الجديد، بشكله المُكثف، بين طياته خطاباً فنياً جديداً، وأشار بكل تأكيد إلى تحول كبير في المزاج الدرامي العراقي في الوقت الراهن، فقد غادرت الدراما العراقية الأجواء والبيئة الاجتماعية القديمة التي باتت توصف اليوم، قياساً بالمواصفات الفنية السائدة حالياً، بأنها كانت بسيطة، أو ساذجة، أو حتى بريئة، حيث الموضوعات بطابعها الاجتماعي المألوف التي عُرفت به سابقاً، وبدأت هذه الدراما الجديدة بالانحدار تدريجياً نحو عوالم العنف والجريمة وعمليات القتل والاختطاف والتصفيات الجسدية ذات الطابع السياسي والاجتماعي، فضلاً عن موضوعة المخدرات وتجارتها وتعاطيها، وهو الملمح الرئيس الذي يمكن تشخيصه والإشارة إليه من خلال الأعمال الدرامية التي شاهدناها على شاشة التلفزيون في السنوات الأخيرة مثل مسلسلات (بغداد الجديدة) و(المنطقة الحمراء) و(الماروت) و(الدولة العميقة) وغيرها كثير.
ومع توالي المواسم الدرامية السنوية، ازدادت ظاهرة العنف رسوخاً في عالم الدراما العراقية، حتى أصبح العنف موضوعاً رئيساً من الموضوعات الدرامية شبه الجاهزة، التي غالباً ما يلجأ إليها المؤلف الدرامي، سواء باختياره الشخصي أو بناءً على توصية أو استكتاب من قبل القناة الفضائية المنتجة.
وبذلك أصبح (العنف) ظاهرة درامية – فنية يلجأ إليها صانعو الدراما لدينا من المؤلفين والقنوات الفضائية المنتجة، لغرض التعبير عن رؤى وتوجهات ثقافية مهيمنة باتت تحكم قبضتها على المجتمع، وتحرك دفة مفاصله بصورة عامة في الوقت الراهن، فضلاً عَما توفره أجواء العنف والقتل والمطاردات والعصابات من عناصر الإثارة والتشويق والشد الدرامي المطلوب في مثل هذا النوع الدرامي الجديد على عالم الدراما العراقية.
الظاهرة.. والواقع؟
هل أصبح (العنف)، بهذا المعنى، ظاهرة درامية – فنية مفتعلة يلجأ اليها صانعو الدراما لدينا، من المؤلفين والقنوات الفضائية المنتجة لغرض التشويق والتسويق؟ أم أن هذه الأعمال الدرامية ذات الطابع العنيف تعبر عن منطلقات فكرية وتوجهات مجتمعية جديدة مغايرة لما كُنا قد ألفناه في حياتنا السابقة؟
وبالتأكيد أن هذه الظاهرة الاجتماعية وانعكاساتها الدرامية لم تنشأ من الفراغ ولم تولد من العدم، فقد شهد المجتمع العراقي، وخلال حقب تاريخية متعددة، تغيرات وتحولات وتبدلات كبيرة في بنيته الاجتماعية والثقافية ومنظومة قيمه وأخلاقه، سلبت منه تلك الدعة والطمأنينة والسلام الداخلي وأفقدته أمنه المجتمعي في المحصلة الأخيرة.
لذا أصبح العنف ظاهرة مجتمعية عراقية وشاعت أجواء الجريمة والقتل وعصابات المخدرات واستخدام السلاح المنفلت من قبضة الدولة وتشريعاتها القانونية.
دراما حياتية
بقي المجتمع العراقي يعاني من العنف المجتمعي وارتفاع نسبة الجريمة بأنواعها، بما فيها ظاهرة العنف الأسري، لذلك فإن الدراما العراقية سوف تعكس هذا التأزم الاجتماعي في أعمالها، مثلما نشاهد اليوم على شاشة التلفزيون، حيث أصبح (العنف) و(الجريمة) ثيمتين دراميتين بوجوه وأقنعة متعددة، وما زال المجتمع وبحركته وإفرازاته اليومية يشهد ويعيش أجواء عنف (الدراما الحياتية) التي يعاني منها، حيث تزهق الأرواح وتسيل الدماء وتطفو جثث القتلى على سطح تلك الدراما بطابعها العنيف.
وفي ظل هذه الأجواء الحياتية والدرامية معاً، لا بد أن نفتقد الهدوء ليشيع التوتر و(العصابية) والشد وتتعالى الأصوات إلى حد الصراخ، ليكون الأداء الفني عموماً مشدوداً ومتوتراً، أما الرومانسية والهدوء والأريحية فقد أصبحت (نوستالجيا) عراقية خالصة.