مواهبٌ فنية ضيعها الإهمال

53

حسن الكعبي /

تخفق الموهبة في كثير من الأحيان، مهما كانت كبيرة، في صناعة مجد حمَلَتها، ووضعهم في مراكزهم وأماكنهم الطبيعية، بسبب غياب العناصر التي تسهم في إبرازها على النحو المطلوب، فهي لا تكفي لوحدها، سواء تعلقت بالأدب أو الفن أو في مجالات الحياة الأخرى، فقد يحدث أن يجري التغاضي عن موهبة كبيرة في تلك المجالات، ولا يسمح لها بالظهور، في حين يسمح لأخرى أقل تميّزاً في الظهور والتسويق، بحيث تحتل مراكز من الشهرة.
هذه المواهب يقع عليها ظلم كبير، والظلم في هذه الحالة هو ظلم المسببات أو الفواعل الخارجية التي تحتاجها لكي تظهر، وهناك أيضاً ظلم يتعلق بالموهبة ذاتها، أي أن مسبباته ذاتية، وكذلك لا يخفى وجود مسببات ومستويات موضوعية أخرى، تسهم في ظلم الموهبة وتغييبها.
أدوار هامشية
هذه المشكلة تظهر بشكل واضح في المجال الفني (وتحديداً في الدراما والسينما)، كنتاج أحد الأسباب الخارجية، أو الموضوعية، أو الذاتية، أو نتاج هذه الأسباب مجتمعة. فهنالك مواهب ظهرت بشكل لافت، لكنها بعد ذلك لم تمنح فرصة لمعاودة الظهور، مثال ذلك، وعلى الصعيد العربي، الفنان الراحل (أحمد مرعي)، الذي قدم دوراً لا ينسى في فيلم (المومياء) للراحل شادي عبد السلام، إذ يعد هذا الفيلم أحد أهم كلاسيكيات السينما العربية، وكان من المتوقع أن يحتل (مرعي) بعده مركز الصدارة بين نجوم تلك الفترة، لكن ما حدث هو العكس، فبعد رحيل (عبد السلام) ظلت الأدوار التي تسند إليه أدواراً هامشية لا ترقى إلى حجم موهبته الكبيرة، الأمر الذي دفعه إلى اعتزال الفن قبل أن يغيبه الموت. وربما أن موهبة (مرعي) سبقت زمنها، ليكون بذلك عنصر الزمن سبباً أساسياً في ظلم هذه الموهبة الكبيرة. وهناك نماذج أخرى في السينما المصرية، نُمطت في أدوار لا ترقى إلى مستوى مواهبها، مثل جميل راتب، وعادل أدهم، وتوفيق الدقن، الذين حبستهم الدراما المصرية في أدوار لا تناسب قدراتهم التمثيلية الهائلة.
عزلة فنية
لم تكن هوليود، التي يفترض بها أن تكون أكثر وعياً من غيرها في إدارة المواهب الفنية وتوظيفها بالشكل المطلوب، بمنجاة عن هذه الإشكالية التي تتجسد بظلم موهبة كبيرة بحجم القدير (تيم روبنز)، صاحب الأداء الرائع في فيلم (سجن تشاوشنك)، الذي رشح للأوسكار، ولم يحظَ بهذه الجائزة، ورغم تميز (روبنز) وترشحه لهذه الجائزة المرموقة، إلا أن سينما هوليود لم تلتفت إلى موهبته الكبيرة، وظلت تحصره بأدوار صغيرة، لكنه بالرغم من ذلك استطاع أن يحصد الأوسكار عن دوره الصغير في فيلم (نهر غامض)، الى جانب (شون بين)، وبدلاً من أن يشكل هذا الحدث نقطة شروع لإعادة التعامل مع هذه الموهبة الفردية، إلا أن العكس هو ما حدث، فقد كانت بداية القطيعة مع (روبنز) ما دفعه الى عزلته الفنية.
النجم الوسيم
تجليات هذه الاشكالية ونماذجها كثيرة في السينما لمن يريد الخوض فيها، ولذلك سنكتفي بالإشارة إلى نموذج تجدر الكتابة عنه في السينما الهندية التي غيبت موهبة كبيرة بحجم القدير (نانا باتكار)، الذي لا يكاد يعرفه إلا قليل من متابعي السينما الهندية، فقد ظهر هذا الفنان الكبير في التسعينيات بأدوار صغيرة، أثبت من خلالها قدراته الهائلة في التنوع، إلا أنه بعد ذلك غيب ولم تلتفت إليه السينما الهندية بالمرة، ولربما أن السبب في ذلك يرجع إلى اختلاف (باتكار) عن نجوم (بوليود) في أسلوبه الادائي الذي يمتاز بالعفوية، لكن المشحون بطاقة تعبيرية كبيرة في الآن ذاته، وأيضاً إلى مظهره وشكله العادي، الذي يفتقر إلى الوسامة المعهودة في نجوم (بوليود)، رغم أن عاديته جعلته أقرب إلى قلب المتفرج، فتقاسيمه قربته إلى نبض الشارع، وكان بالإمكان أن تبدأ سينما (بوليود) صفحة جديدة في كسر أسلوب الاستعانة بالنجم الوسيم جداً، والمفتول عضلياً، والخارق الذي لا يقهر، الذي أصبح نمطاً مملاً في السينما الهندية، التي كان يفترض عليها أن تتحول عنه إلى أسلوب آخر أكثر واقعية واقناعاً.