
نوروز وعيـــــد الأم..حيـــــن تزهــــر الأرض وتتجدد الحياة
“الشبكة العراقية”
حين يحل آذار، تصحو الأرض من سباتها الطويل، فتزهر الحقول، وتتراقص السنابل على أنغام النسيم الربيعي. في هذا الشهر، يحتفل العراق بأعياد متداخلة كأغصان شجرة وارفة؛ نوروز، حين تعانق الطبيعة الحياة من جديد، وعيد الأم، رمز لعطاء لا ينضب، حيث يكرم نضال النساء وإرثهن في بناء الوطن.
نوروز.. حكاية الضوء والنار
في 21 آذار، تنبعث أهازيج الفرح من القرى والوديان، حيث يضيء الكرد شعلة الحرية على قمم الجبال، مستذكرين أسطورة (كاوة الحداد)، الذي أضرم النار في وجه الظلم. نوروز ليس مجرد تاريخ في التقويم، بل هو وعد تتجدد فيه الأرض، وتتنفس الجبال بروائح العشب البري، وتكتسي الأنهار بمرآة السماء.
في كل عام، ينبثق نوروز في العراق كإشارة على بداية الربيع وتفتح الأمل في قلوب الناس، ولا يقتصر الاحتفال على الكرد وحدهم، بل تمتد بشائر الفرح إلى مدن العراق كافة، وتخرج العائلات إلى البساتين، مفترشة مساحات الوطن الخضر.
وسط هذه الأجواء، تلعب النساء دورًا محوريًا في الاحتفال. في كردستان العراق، حيث تتزين السيدات بأجمل الملابس الكردية المطرزة بألوان الربيع، ويتقدمن في مواكب الفرح، حاملات المشاعل، ورابطات الأوشحة ذات الألوان الزاهية التي ترمز إلى الحياة والتجدد. يجتمعن حول النيران، يغنين أهازيج الحرية، ويروين قصص الأجداد، مجسدات دورهن في الحفاظ على التراث الثقافي الحي.
عيد الربيع
يُعد هذا العيد أحد أقدم الأعياد التي تحتفل بها شعوب عدة، وتعود جذوره إلى آلاف السنين. لكن ما يميز نوروز في العراق، التقاليد التي تزاوج بين الطابع الكردي، والعربي، والمندائي في الجنوب، والآشوري في الموصل، كما يحتفل التركمان والشبك والإيزيديون وبقية الطوائف والأديان العراقية على اختلاف أعراقهم، عاكسين روح البلد العريق.
في العراق، تختلف طقوس الاحتفال بنوروز بحسب المنطقة والطائفة، لكن هناك إجماعاً على إقامة الولائم، وأن تترأس أكلة (الدولمة)، على اختلاف طرق طبخها من منطقة لأخرى، وأن تخرج العائلات للاستمتاع بالجو الربيعي الجميل، والخضرة التي تكتسي بها الأرض هذه الأيام.
فرح الاحتفالات
يختلف العراقيون في تسمية هذا العيد، فبالإضافة لعيد النوروز، ورأس السنة الكردية، وعيد الربيع في الموصل وغيرها من المناطق، يطلق عليه بعضهم (عيد الدخول)، إذ إنه يرتبط بتوقيت دخول الشمس إلى برج الحمل، الذي يتزامن مع بداية فصل الربيع في 21 من آذار، توقيت يواكب تفتح الأزهار وازدهار الطبيعة.
وفي الأسواق العراقية، تنبض الحياة في عيد نوروز، حيث تُعرض الأباريق الخزفية الملونة التي تحمل رمزية البركة والتفاؤل، بالإضافة إلى المكسرات والزبيب والحلويات المميزة، مثل (الزردة)، وفي جنوب العراق يصنع (البحت)، من حليب الجاموس والرز، إضافة إلى الفستق واللوز والدارسين، وتتزين الموائد بالزهور والشموع، وتبقى الاحتفالات مستمرة حتى صباح اليوم التالي.
تحرص النساء على طبخ الدولمة، وتجهيز (صينية) تحتوي على رموز نتاج الأرض من خيرات، مثل الثوم والسمك والتفاح والسمسم والسماق والرز والحليب، وبعض الحبوب التي يجري إنباتها بالقطن فوق فوهات الأباريق والجرار الفخارية، وتكون لكل طفل في العائلة جرة من الماء والحمص، أو العدس، أو الماش.
وفي ليلة عيد الدخول، تُضاء الشموع حول الصينية المزدانة بأعواد نبات (الياس)، الذي يُعتقد بطرده الأرواح الشريرة وجلبه الخير. وفي هذا اليوم، يعتقد بعض العراقيين أن ملكًا صالحًا يزور البيوت الطاهرة ليبارك الأسَر، ويتذوق الأطعمة التي أعدتها العائلة بمناسبة العيد.
عيد الأم.. نبع الحنان
في اليوم ذاته، ينحني الزمن احترامًا لأمهات العراق، اللواتي احتضنّ الحياة رغم أوجاعهن، وهن يغزلنَ الأمل بخيوط الأيام. إنها الأم التي حملت كُرب البلاد في صوتها، وغسلت جراح الزمن بدمعها، ورسمت المستقبل في عيون أبنائها.
كانت البداية الرسمية للاحتفال بعيد الأم في العراق عام 1956، ومن يومها حرص العراقيون على الاحتفاء بأمهاتهم تقديراً لعظمتهن.
تتنوع مظاهر الاحتفال بعيد الأم؛ فثمة من يختار أن يعبّر عنه بهدية، ومن يجد في قبلة على جبينها كل المعاني، ومن يفضّل أن يبقى قربها، يلتقط فتات السنين من حديثها، ويعيد ترتيب ذاكرة الأيام على وقع صوتها الحنون.
عطاء ونضال
ليس غريبًا أن تجتمع هذه الأعياد في شهر واحد، ففي نوروز تتجدد الأرض، وفي عيد الأم تتجدد الروح، وفي عيد المرأة العراقية يتجدد العزم. بين نيران الفرح وزهور الامتنان، يحتفل العراق بحياته، بتاريخه، وبنساءٍ صنعن منه وطنًا يليق بالحب والكفاح.
إنه يوم يحمل وجوه الفرح المختلفة؛ وجه الأرض وهي تبتسم بلونها الأخضر، ووجه الأم حين يغمرها الحب، ووجه المرأة العراقية وهي ترفع راية العزيمة، ووجه العراق حينما يحتضن هذه الأعياد فيكون كما كان دائمًا… أرضًا للحياة والنور.