
انتفاضة آذار 1991 ثورة شعبية في وجه القمع
ريا عاصي
شهد العراق واحدة من أكبر الانتفاضات الشعبية في تاريخه الحديث، التي عُرفت بانتفاضة آذار. جاءت هذه الانتفاضة كرد فعل على القمع السياسي والاقتصادي والديني الذي مارسه نظام الطاغية صدام حسين، ضد مكونات الشعب العراقي.
وقد صوت مجلس النواب على اعتبار “يوم 16 آذار، عطلة رسمية لاستذكار جرائم البعث الصدامي بحق المواطنين (حلبجة، والأنفال، والمقابر الجماعية، والانتفاضة الشعبانية، وقتل العلماء، ومحاربة الأحزاب).
شملت الانتفاضة جميع مدن الجنوب والوسط، والمناطق الكردية في الشمال، إضافة إلى بعض مناطق العاصمة بغداد، مثل مدينة الثورة (الصدر)، التي انطلقت شرارة الانتفاضة فيها من (سوق مريدي) لتمتد نحو (قطاعات) المدينة وصولاً إلى مدينة (جميلة). وشكلت الانتفاضة في كل هذه المحافظات والمدن تحدياً كبيراً للطاغية، فهي لم تكن مجرد انتفاضة عابرة، بل كانت صرخة جيلٍ كاملٍ أنهكه الحصار، وأرهقته الحروب، ووجد في هذه اللحظة نافذة ضوءٍ نحو التغيير وبناء دولة المساواة والعدالة الاجتماعية.
أسباب ودوافع
بدأت الانتفاضة في الأول من آذار 1991 بمدينة البصرة، حيث انتفض الجنود العائدون من الحرب المنهكة ضد النظام، وسرعان ما انتشرت الاحتجاجات إلى النجف، وكربلاء، والديوانية، والحلة، والعمارة، والعديد من المدن الأخرى. وكانت الأسباب الرئيسة لهذه الانتفاضة، الآثار المدمرة لحرب الخليج، إذ عانى العراقيون من الفقر والجوع نتيجة العقوبات الدولية والقصف العنيف. وكذلك القمع السياسي، إذ استمر حكم حزب البعث لعقود بقوة الحديد والنار، ما دفع المواطنين إلى التمرد. كذلك كان هناك الإلهام الخارجي، إذ رأى العراقيون في انتفاضات أوربا الشرقية وانهيار أنظمة شمولية سابقة أمثلة على إمكانية التغيير.
لكن ما لم يكن متوقعاً هو شجاعة المنتفضين، وكيف تحولت الشوارع إلى ساحات نضالٍ، والمنازل إلى حصونٍ تحمي الفارين من جحيم القمع.
محطات الانتفاضة
حققت الانتفاضة نجاحاً سريعاً في أيامها الأولى، إذ سقط العديد من المدن بيد الثوار، وشُكلت مجالس محلية لتنظيم الأمور الإدارية والأمنية. لكن النظام رد بوحشية مفرطة، مستخدماً الحرس الجمهوري وقوات الأمن الخاصة لاستعادة السيطرة.
البصرة، شهدت اندلاع الشرارة الأولى للانتفاضة بعد أن استخدم جنود عراقيون الدبابات لإسقاط صور صدام حسين، في حين شهدت محافظتا النجف وكربلاء معارك عنيفة بين المنتفضين والقوات الحكومية، حيث قُصفت الأضرحة المقدسة ووقعت مجازر مروعة.
أما في المناطق الشمالية، فقد تمكن الأكراد من السيطرة على معظم مناطقهم قبل أن يواجهوا حملة قمع مماثلة. لكن ما لم يكن عابراً هو الأثر العميق الذي تركته هذه الأيام الدامية في الذاكرة العراقية.
قمع وحشي
الضوء الأخضر الذي منحه النظام الديكتاتوري لزبانيته في مواجهة المنتفضين، أثمر قمعاً وحشياً، تبنت فيه السلطة القوة المفرطة ضد المدنيين، مستخدمةً الطائرات والمدفعية الثقيلة لاقتحام المدن المنتفضة. أُعدم عشرات الألوف من المشاركين، وجرى دفن العديد منهم في مقابر جماعية، كما هجر مئات الألوف من العراقيين، خصوصاً من المناطق الكردية والجنوبية.
بالرغم من حجم المأساة والجرائم التي اقترفها النظام ضد العراقيين، لم يتدخل المجتمع الدولي بشكل فعّال لإنقاذ المنتفضين، إذ اكتفى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بفرض (المنطقة الآمنة) لحماية الأكراد، بينما تُركت مدن الجنوب تواجه مصيرها بمفردها.
نتائج وتداعيات
أدت الانتفاضة إلى تغييرات كبيرة في المشهد السياسي العراقي، منها تعزيز قبضة النظام على السلطة حتى عام 2003، وتعميق الشرخ بين الحكومة والمناطق المنتفضة، وفرض مناطق حظر الطيران في الشمال والجنوب، ما مهّد لاحقاً لسقوط الديكتاتورية عام 2003.
لم تكن الانتفاضة في ذاكرة العراقيين مجرد حدثٍ سياسي، بل كانت درساً ملهماً لمواصلة الثورة ضد الطاغية بالرغم من الأثمان الباهظة التي دفعها المنتفضون والمدن التي ثاروا فيها.
انتفاضة آذار 1991 كانت ومازالت واحدة من أبرز اللحظات الثورية في تاريخ العراق، أثبتت أن الأمة العراقية لم تكن راضية بحاكم جائر، واستطاعت إسقاطه لولا التدخل الخارجي بقيادة أميركا وبعض الدول العربية، التي منحت الطاغية وبعثِهِ طوق نجاة للخلاص من ثورة اجتاحت معظم محافظات العراق، وبعض مناطق العاصمة بغداد. انتفاضة مثلت إرادة الشعب في التغيير بالرغم من القمع الوحشي، ومع أنها فشلت في تحقيق أهدافها المباشرة، إلا أنها أرست الأساس لتحولات سياسية لاحقة انتهت بإسقاط الديكتاتورية عام 2003.
اليوم، وبعد عقود من تلك الأيام العاصفة، ما تزال قصص الانتفاضة تُروى بصوتٍ مليء بالحسرة والفخر، وكأنها جرحٌ لم يلتئم، لكنه ما يزال شاهداً على قدرة العراقيين في مواجهة أبشع نظام قمعي دفاعاً عن حريتهم، التي مازالوا يدافعون عنها حتى الآن.