عيناها خضراوان، وقلبها مطمئن
عبد الزهرة زكي/
كنت عائداً من مركز تدريب الدروع في تكريت إلى عائلتي في بغداد، كان هذا في عام 1991، لقد انتهت الحرب في الكويت، وكان معظمنا ينتظر إكمال اجراءات تسريحه من خدمة احتياط ثانية أو ثالثة وربما رابعة.
كنا جميعنا جنوداً في تلك السيارة التي ظفرنا بها بمصادفة نادرة وبعد انتظار طويل في المرآب العام بمدينة تكريت.
كان من الصعب على السيارات التوفّر على الوقود مما عطّل معظمها، وأساساً كانت حركة الناس بين المدن قد تقلّصت في ظروف غامضة عن نهاية حرب في الكويت واندلاع انتفاضة في الجنوب ثم في كردستان. ليس سوى جنود كثيرين في مرآب تكريت كانوا ينتظرون سيارات قليلة لتقلَّهم إما إلى بغداد جنوباً أو إلى الموصل شمالاً.
كان لا خيار في مثل هذه الأماكن سوى الصمت لتفادي أية زلة؛ أو (خطأ). كان الصمت هو الأجدى في تلك الأيام التي امتدّ فيها الشتاء وبرده، وكان ثِقل الملابس العسكرية الملتفّة على الأجساد هو الآخر داعياً أكثر أهمية إلى الصمت والانكفاء تحت تلك الملابس وقد فقدت ذلك البريق الذي كانت عليه في الحرب الأولى، حرب الثماني سنوات مع إيران.
كان الضباب ما زال كثيفاً وقريباً من الأرض برغم أن الوقت قارب الظهيرة حين انطلقت بنا السيارة باتجاه بغداد بركابها الثمانية عشر، وكان الضبابُ داعياً آخر إلى الصمت تحسّباً من الطريق وحوادثه ومن احتمال أيِّ سهو أو زلل من السائق..
كانت العيون كلها تتجه نحو شخص واحد كان معنا في السيارة، إنه رئيس عرفاء في نهايات شبابه، يتطلع نحوه الراكبون ثم يشيح بعضهم بوجوههم عنه، ولا يلبثون حتى يعادون التطلع نحوه بفضول صامت.. لقد أثار انتباه الجميع أن رئيس العرفاء العائد حتماً من وحدة قتالية كان يحتضن طفلة رضيعة.
هذه الطفلة كانت المدني الوحيد في السيارة بعد سائق السيارة.
أحد الراكبين الجنود لم يقوَ على مواصلة كبح فضوله فسأل رئيس العرفاء عن الطفلة في حضنه فأجابه:
ــ هذه طفلة وجدتها في قرية من قرى كركوك النائية، كانت وحيدةً في بيت نزحت عنه عائلته مع مَن نزح من السكان باتجاه جبال السليمانية وأربيل قبل أن يصل الجيشُ إلى قراهم. إنْ تركتها هناك فإنها ستموت بالتأكيد، ففضّلت حملها معي ونقلها إلى بيتي لتتربى مع أولادي. ساعدني آمري بإجازة لأوصلها إلى البيت في مدينة صدام ببغداد.
كانت المعارك شديدة حوالي كركوك وفي ضواحيها وقراها من بعد ما اندلعت انتفاضة في السليمانية وأربيل، وكان واضحاً لنا أن الطريق بين بغداد وكركوك قد توقف جراء المعارك أو لاستخدامه لحركات الجيش وتنقلاته مما اضطر هذا الرجل إلى المجيء إلى تكريت ومنها إلى بغداد.
في تكريت اشترى من واحدٍ من محالّها التجارية قنينتين لإرضاعها الحليب من بعدما حصل من محل آخر على علبة مسحوق حليب يناسب عمرها كما خمّنه. كانت خبرته كأب تساعده على هذه الفطنة التي اشترى بموجبها قنينتين جديدتين لتكفياها خلال الطريق. كانت مشكلته مع التوفر على ماء ساخن ليعدَّ لها القنينة، ومع القنينتين هانت المشكلة فقد حصل على الماء الساخن من إحدى المقاهي القريبة من المرآب.
كانت الطفلة في نهايات سنتها الأولى أو في مطلع السنة الثانية، كانت عيناها الخضراوان تتنقلان ببريق صامت في وجوه جميع القريبين منها، وبما يوحي باطمئنان قلبها في تلك الحظات الغريبة عليها وفي المكان الغريب.
هل كانت تدرك تلك المحنة التي كانت فيها هي والرجل الذي أنقذها؟ يقول لنا رئيس العرفاء: كان يقلقني كثيراً احتمال أن تبكي الطفلة في الطريق، والحمد لله ما إن حملتها وناولتها ماءً في بيت أهلها حتى صمتت من بكاء كانت لا تتوقف عنه. كان ذلك الماء آخر ما تتناوله في ذلك البيت الذي ولدت فيه والذي وجدتُها مرمية عند بابه على حصيرٍ وقد أزاحت عنها غطاءً كان يدثرها.
لم تبك الطفلة طيلة الطريق، كانت تراقب الجميع باطمئنان وكما لو كانت تصغي إلى الأحاديث ما بين الجنود والتي كانت هي بطلتها، هكذا تبادر إلى ذهني حينما حانت التفاتة منها نحوي عندما كنت أتحدث مع رئيس العرفاء الطيب. لم أستطع مقاومة تلك النظرة الوادعة، لقد اختنقت بكلماتي وكففت عن الكلام، وليس سوى أن أمدّ يدي لأتناول من الحقيبة الصغيرة المرمية بين قدميّ سيكارة ملفوفة بتبغ رديء وأدخن صامتاً فلا أقوى على منع دموع انهمرت.
حين اقتربت السيارة من قضاء بلد كان على الشارع مطعم صغير في كوخ من الصفيح، وقبل بلوغ المطعم طلب رئيس العرفاء من السائق التوقف هناك ليتمكن من تنظيف الطفلة وتغيير ما يلفّها من قماش قطني. ولكن بماذا سيستبدل ذلك القماش، تساءل أحدنا.
ومن دون اتفاق امتدت الأيدي إلى الحقائب، وأخرج الجنود ما لديهم من ملابس مدنية أو عسكرية وعرضوها على الرجل لمساعدته في تدفئة الطفلة وتدثيرها ريثما يصل بها إلى البيت.
في المطعم انشغل هو وبمساعدة صاحب المطعم المسكين بتنظيف الطفلة بماء فاتر أعدّه صبيٌّ كان يعمل مع أبيه في المطعم، فيما انشغل أحد الجنود بتنظيف القنينة التي أفرغت قبل مغادرة تكريت وإعادة تعبئتها بالحليب.
لم يخفف من وطأة ذلك المشهد المرعب لطفلة تمضي بمسارآخر في حياتها، ومن فجيعة التفكّر بأمها وأبيها ومكابدتهما إن كانا ما زالا على قيد الحياة في تلك اللحظة، ولم يشغلنا عن المأساة سوى هذه الروح الإنسانية التي تحضر وتنقذ الحياة والرحمة ما بين البشر وذلك في ظرف تندحر فيه الحياة وتداس الرحمة.
انصرف الجميع عن المأساة إلى سعادة فعل شيء ينقذ الكرامة الإنسانية. إنها لحظة يشعر فيها الجميع بطعنةٍ في كرامتهم، وكان حضور الروح الإنساني بمواجهة الطفلة ورئيس العرفاء محاولة للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من كرامة.
لم تبكِ الطفلة، كما هو مألوف عندما يجري تنظيف أية طفلة بعمرها وتغيير ما عليها؛ انتهى الرجلان من غسلها وتنظيفها ولفّها بفروة صوف داخلية لقمصلة تبرع بها أحد الجنود.. لقد بدت الطفلة مسترخية وهي تتناول قنينة الحليب الثانية التي ما إن أكملتها حتى استسلمت لنوم عميق لم تستيقظ منه إلا على أصوات منبهات السيارات في شوارع العاصمة.
قبل أن نغادر جميعاً السيارة ورئيس العرفاء والطفلة التفت السائق إلى رئيس العرفاء، وفاجأنا بسؤال مباغت:
ــ عمي، الله يرحم والديك ويحفظك لأولادك وعائلتك، أنت ابن حلال، لكن عندي سؤال لو سمحت!
ــ شكراً أخوية، تفضل اسأل.
ــ الطفلة ما تعرف اسمها، شنو راح تسمّيها؟
ـــ سمّيتها أخوية، سمّيتها روناك.
ــ شنو رأيك لو مسمّيها باسم من اسمائنا، مو خطية؛ اسمها روناك يظل يذكرها بمصيبتها، والمفروض تنساها وتنسى كل شي ما دام راح تتربى ويّه أولادك، الله يحفظهم ويحفظها بسلامة..
ــ لا، أخي، لا.. البنت بنت أهلها، ليش نيأس من رحمة الله، الله يسهّل ويجوز ترجع لهم.
صمت الجميع، فيما حدقت روناك بعيني منقذها، لقد بات يفهم لغة عينيها، حيث تناول مباشرةً قنينة الحليب المتبقية، ومثل أيِّ أمٍّ مرضعة أسند الرجلُ الطفلةَ على صدره، مستمتعاً بحُسن ما فعل وبالطفلة وبسعادتها على صدره والقنينة في فمها.
يفترض بهذه الطفلة أنها عاشت في مدينة الثورة (الصدر) ببغداد، حيث يسكن منقذها، ويتوقع أنها الآن بعمر السادسة والعشرين.
آمل أن تكون بحفظ الله، وبرعاية ذلك الرجل النبيل ما لم تكن قد عادت إلى عائلتها بسلام.