الموسيقار زكريا احمد: كيف قابلت أم كلثوم ؟

737

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

هذه صفحات من مذكراتي عن أهل الفن، أكتبها للذكرى والتاريخ، وقد ترددت في نشرها، لأنني أخشى ألا يتسع صدر فنانينا لبعض ما جاء بها من ذكريات الماضي، ولكنني مع ذلك أقدم على نشرها، فهذه الصفحات لا يجوز ان تضيع لأنها تكوّن جزءاً هاماً من تاريخ الفن، وأبدأ بأم كلثوم.

عندما أعود بذاكرتي الى الوراء وأستعين بمفكراتي القديمة التي أحتفظ بها.. أجد أنني لم أسمع باسم أم كلثوم قبل عام 1920. ففي ذلك العام دعيت لإحياء شهر رمضان عند أحد تجار السنبلاوين وكان يدعى “علي أبو العينين”، وقد عرّفني به المرحوم الشيخ أبو العلاء محمد الموسيقي المعروف ومحمد عمر عازف القانون، وقد اتفق معي التاجر المذكور على أجر مناسب بشرط أن أغنى بعد انتهائي من تلاوة القرآن، وذهبت للسنبلاوين، وبدأ شهر رمضان وسهرات رمضان، وقبل مضي أسبوع حضر المرحوم محمد عمر القانونجي في إحدى الليالي، وبدأنا في إحياء حفلات غنائية، أنا بصوتي مع العود، وهو يصاحبني بالقانون، وفي إحدى الليالي أخبروني بأنهم أعدوا لى مفاجأة عظيمة، فإنهم اكتشفوا في بلدة مجاورة أجمل صوت سمعوه ،وانتظرت، فحضرت فتاة صغيرة تلبس العقال العربي وتتعثر في خطواتها الخجلة، ومعها أخوها وهو شاب يرتدي الجبّة والقفطان والعمامة ولا أدري السر الذي جذبني نحو هذه الفتاة، وجعلني أؤمن بأنها لابد صاحبة هذا الصوت العجيب، بالرغم من أن أخاها “الشيخ خالد”، كان يتقدمها في المشي، بل ويكاد يقود حركاتها وبدأت أحادثها، فراعني ذكاؤها الخارق بالنسبة لسنّها التي لم تكن تتعدى الخامسة عشرة، وأعجبني منها أيضا خفّة دمها وروحها -وهي لم تفارق أم كلثوم الى الآن- وإن كانت وقتها تمتاز بسذاجة الفطرة الريفية، وأخيراً طلبت منها ان تغني، فغنت وأبدعت وروت وأشبعت ،كما يقول أهل الأدب، ومنذ ليلتها وأنا أصمّ لا أسمع إلا صوتها، أبكم لا أتحدث إلا باسمها.. فقد اصبحت مفتوتاً بها وأقول مفتوناً لأنني أحببتها حبّ الفنان للحن خالد تمنى العثور عليه دهراً طويلاً. وتشجعت وألحفت عليها في الرجاء بأن تزورني دائماً طيلة شهر رمضان فاستجابت لرغبتي، ولم تكن استجابتها حباً في عيون العبد لله، بل كان لشغفها بالاستماع للقصائد والأغاني التي أغنيها كل ليلة، والتي كثيراً ما كنت أحاول تحفيظها لها.

وتعود بي الذاكرة الى تلك الأيام الجميلة، أيام الشباب، إذ كنت وقتها في الرابعة والعشرين أنيقاً شديد العناية بملابسي وهندامي، حتى أن أخاها خالداً لمح حقيبة سفري فشاهد فيها عدداً من الأحذية، ففضحني ليلتها بين أهل البلدة قائلاً: “هوه فيه صيّيت يسافر ويشيل معاه ست جزم!!”..

وهكذا توثقت علاقاتي وصداقتي بأم كلثوم وأخيها الشيخ خالد، ودعتني لزيارتها بمنزلها بطماي الزهايرة.. وهناك عرّفتني بوالدها المرحوم الشيخ ابراهيم، وكان رجلاً في غاية التقوى والورع، فقضيت معهم أوقاتاً طيبة. استعدت فيها نزوات الصبا ومرح الطفولة إذ كنت أمصّ مع ام كلثوم القصب، لإرضائها، فقد كانت أم كلثوم وقتها فتاة طليقة غير مقيدة بالمسؤولية التي تقيدها الآن وكانت لا تحب سوى الموسيقى والمرح.

وأخيراً انتهى رمضان وافترقنا، فعدت أنا الى القاهرة، وبقيت هي بمطاي الزهايرة، عدت الى القاهرة فغمرتني الحياة الصاخبة التي تغمر كل شيء، حتى الذكريات السعيدة، ولكن أم كلثوم ظلت من جانبها تراسلني بخطابات تحمل عبارات ساذجة مكتوبة بحبر أخضر يذكرني بالخضرة والصوت الحسن، وكانت خطاباتها تدفعني د ائماً الى القيام بالدعاية لها هنا من حيث لا أدري ولا تدري..

وفي نهاية سنة 1920 زارني أحد أصدقائي من التجار وطلب مني إحياء فرح له، فكتبت لها –وكان أول خطاب أكتبه اليها- وجاءني منها الرد بالقبول بعبارة مؤدبة، وكانت أجرة الليلة ثمانية جنيهات، زدتها بعد الحفلة الى عشرة جنيهات، وقد دعوت في هذه السهرة المرحومين الشيخ علي محمود والشيخ أحمد نداء، وبعد أن سمعاها آمنا بها إيماني بها من قبل.

وأخذت أم كلثوم تصعد درجات المجد مستندة الى ذراع أستاذها الأول الشيخ أبي العلا، وغنت لي بعدئذ أول مقطوعة لحنتها لها وكانت “اللي حبّك يا هناه”.