عندما يُصبح الثوريّ وجودياً

796

حربي محسن عبد الله/

بين يدينا كتاب “موت التاريخ”، والكتاب يحمل عنواناً فرعياً هو “منحى العدمية في أعمال محمود درويش الأخيرة” للناقد والشاعر الجزائري أحمد دلباني، صادر عن دار التكوين بدمشق. نقلب صفحاته ونقرأ ما بين سطوره ونتوقف هنا وهناك أمام مقولاته وما يريد لنا الكاتب أن نتلمّس.

سديم المعنى

يأخذنا دلباني في كتابه نحو لحظة وجودية دقيقة للذات حين ينطفئ كل ما سواها، أي لحظة مواجهة العدم، أو بتعبير آخر هي نظرة على الكيفية التي يتم فيها الاتكاء على الفراغ بعد تلاشي الأبعاد، وعندما تغيب الوجوه والأصوات والرايات، ويغيب ضجيج الآخر وتختفي ملامحه، فتكون الوحدة مع العدم هي المدار الوحيد الذي تدور به الذات ويغرق المعنى في السديم.

شعر محمود درويش هنا كما يؤكد دلباني، إفاقة على موت التاريخ واكتشاف فجائعيّ للموت الفردي الذي أسدل الستار على سردية البطولة وشعرية الوجود ليشرف منه على نثر العالم وسديمه.

منذ البداية يقرر دلباني بأن كتابه هذا لا يدّعي البحث النقدي الثقافي بمجمل المنجز الشعري للراحل الكبير محمود درويش، بل هو “محاولة في الاقتراب من منحى العدمية الذي وسم أعمال درويش الأخيرة ولفعها برداء المرارة الوجودية”. لم يعد التاريخ صراعاً جدلياً ولم يعد مقاومة ملحمية بل هو عنف يفتقد إلى الغاية. هنا انتصر مكبث على ماركس. يقول درويش بنبرة حادة في قصيدة “لا تعتذر عما فعلت” (لاتكتب التاريخ شعراً، فالسلاح هو المؤرخ) مشيراً إلى أن معنى التاريخ هجر مخدع العقل وألق الملحميات ليجد ينبوعه في النثر في أتون القوة التي صنعته وكتبته.. لكن ماذا يعني موت التاريخ؟

موت التاريخ

موت التاريخ برأي دلباني، ليس بالمعنى الذي ابتهج له أنبياء العولمة الجدد والمبشرون بالعهد الأمريكي وجنة الاستهلاك الليبرالية، إنما بالمعنى الفلسفي الذي جعل منه ـ لعهود طويلة ـ معبراً يقود إلى أرض مفتوحة على زمن مضاء بالإنسان. مات التاريخ بوصفه وعداً بالعدالة والكرامة وبوصفه نشيداً ظافراً وزمناً آهلاً بلازورد الحرية الكيانية وصداقة الريح والبحر. هنا غابت في البعيد كل شعارات الأمس وضجيجها وأعراس الهتافات وكليشيهات المزايدات الايديولوجية، التي هي نعاس الثقافة، وتلاشى خطباء منابرها. فقد “أنضجتْ الحكمة صورة الشاعر وجعلته أكثر تخلصاً من فضيحة السقوط في الجماعي، هنا اكتشف محمود درويش ذاته الفردية، مطلاً منها على هشاشة الحياة ومدركاً أنها لا يمكن أن تكون إلا كسفينة نوح في غمرة الطوفان القادم أبداً”.

عدمية

كان درويش ـ كما يؤكد دلباني ـ شديد الانتباه إلى صخب العالم ورهانات المعنى ودلالات الأشياء الكامنة. فهو شديد الانفتاح على كونية الجرح والمنفى وصراع الإنسان الأبدي مع آلهة الظلام في الرحلة القاسية إلى جزر الضوء. وبعد أن كان درويش يرى أن تراجيديا الشعب الفلسطيني الشريد لا تتطلب نجدة السماء ولا إسعاف الآلهة، وإنما النضال البشري الذي هو انخراط في تصحيح وجهة التاريخ الذي يكتنز ـ حتماً ـ بتباشير الخلاص من كل أشكال الاغتراب والاستلاب والهيمنة. فإذا هو يصطدم بأن هذا الوعي الثوري التقدمي لم يكن بمنأى من مآزق اللحظة التاريخية ومهاويها. فقد فغرتْ العدمية فاهاً على خرائب الرؤية الإيجابية للتاريخ، وخفت وطأة التفاؤل الذي أثقل كاهل أصحاب الغنائيات الثورية. عندها كفّ الموت عن أن يكون عيداً قومياً وخرج إلى فضاء السؤال من شقوق الإيديولوجيات المنهارة. فذهب الشاعر ليقول في قصيدة “جدارية”:

“كلما أتضح الطريق إلى

السماء، وأسفر المجهول عن هدف

نهائي تفشى النثر في الصلوات،

وانكسر النشيد”.

يقول دلباني “كان المجهول الذي نسافر إليه نقطة عليا وهدفاً كيانياً تجهز له الحضارة كل روحها الملحمية باعتباره طريقاً ودلالة تمنح الزمنية علواً ومعنى. أما الآن فلا. لقد انكسر نشيد مسيرة الإنسانية إلى قهر العبثية على صخرة الزمن الناتىء كحجر يعلن موت الملحميات ولا جدواها”.

رحلة بلا هدف

هنا أصبحت الرحلة دخولاً في غابة أو في طرق لا تؤدي إلى أية جهة كما كان يعبر هيدغر. يؤكد دلباني أن درويش وهو يتأمل من خلال تجربته النضالية ومن خلال مرحلته، ملاحظاً أن التاريخ كف عن الوعود ولم يعد معبراً إلى ضوء الآتي، ما جعله يتخلص من عنف الفكر الذي ظل يعتقل العالم في النظرية الشمولية، وظل يوهم أصحابه بإمكان معرفة المصب السعيد لنهر الزمن. لقد كشف التاريخ الفعلي عن كونه تكراراً جنونياً (من المقلاع حتى الصاعق النووي) كما يعبر درويش في قصيدة “لا تعتذر عما فعلت”، وكشف عن وحشيته وعن خوائه من البعد الإنساني. من هنا يأسف درويش ـ بكل تأكيد ـ لتلاشي الغائيات الكبرى. يقول في “جدارية”:
“وأنا أريد أن أحيا..

فلي عملٌ على جغرافيا البركان

من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما

واليباب هو اليباب”.

وإذا التاريخ كله “أرض خراب”، وإذا بالشاعر يفيق على الموت الفردي وفاجعة التناهي لذلك انفتح الخطاب الدرويشي على أكثر المشكلات الوجودية حدة، التي قذفت به خارج سرديات السقوط في فراديس الوهم التي أطّرت النظرة إلى العالم في عهود سابقة.

السماويّ الطريد

وهكذا تبدأ الحقيقة عند الوجودي انطلاقاً من الذات التي تعاني بوصفها شرفة تطل على الوجود الأصيل. وتبدأ مقولات الفكر بالانسحاب ـ شيئاً فشيئاً ـ من الأشياء التي تسكن حالات الذات وهي تجابه العالم والزمن والقلق المرتبط بالكينونة المتناهية. من هذا القلق نرى التحول من الثوري إلى الوجودي في مسار صوفي يجد درويش نفسه فيه، هنا الشعر عند شاعرنا يجيء من جهة الفناء والغيبوبة عن نثر العالم. يقول في “جدارية”:

“كلما احترق الجناحان

اقتربت من الحقيقة، وانبعثتُ من

الرماد. أنا حوار الحالمين، عزفت

عن جسدي وعن نفسي لأكمل

رحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقني

وغاب. أنا الغياب. أنا السماوي الطريد”.

تحوّل الشاعر

في الختام يؤكد دلباني على أن المسار الذي جسدته تجربة محمود درويش هو من الثورية إلى العدمية وهذا ليس تقييماً لتجربة شعرية وفكرية غنية بقدر ما هو وصف لمسار قاد صاحبه إلى أن يكون ممثلاً لوعي ظل يعتمل داخل رحم المرحلة وظل يرسم منحاها العام، أعني ذلك المنحى الذي خبا فيه ضوء التاريخ بوصفه انبجاساً لينابيع المعنى ولأبجديات التحرر الشامل للإنسان.

لقد أصبحت العدمية السمة الأكثر حضوراً في كتابات درويش الأخيرة. وهكذا أصبح الثوري وجودياً.