كيف تكـــــــــون مقاتلاً لا قاتلاً؟
نشر في “يوتيوب” مقطعُ فيديو عن معارك الموصل، قد يمرّ مرور الكرام في زحمة الأفلام التي تأتينا من هناك. لكنه أعظم فيديو يمكن لك أن تراه.
زمن الانترنت والتقنيات الفائقة جعلنا نشاهدُ المعارك التي يخوضها أبناؤنا ضدّ وحوش داعش مباشرة أو بفارق زمنيّ طفيف. هذه المعارك التي تُخاض هناك دماً وبطولة نخوضها نحن هنا قلقاً على أخوتنا مع شعور عظيم بالفخر.
وأمسِ رأينا مقطع الفيديو هذا: شوارع مقفرة ملأى بالأنقاض التي صنعها تفخيخ داعش للبيوت، ويُسمع بين الحين والآخر صوت أزيز رصاص أو دويّ قذيفة بعيدة، وفجأة يظهر في الشارع رجلٌ بأسمالٍ بالية يترنّح يمنه ويسرة، وهو يتقدّم باتجاه الكاميرا، أي إلى الجهة التي يقف فيها أبناؤنا المقاتلون.
سيماؤه تشير إلى أن الرجل مختلّ العقل، ومَنْ غير مختلّ العقل يمكن أن تراه يسير هادئاً في شارعٍ بين جيشين، في شارعٍ مقفرٍ هو أرض حرام؟
نسمع صوت أحد جنودنا يقول أن هذا الرجل مفخخ، وتتذكر وأنت ترى وتسمع الفيلم، عشرات العمليات الإرهابية التي قام بها داعش ومن قبله القاعدة بتفخيخ المختلين عقلياً وتفجيرهم في أسواق بغداد وشوارعها، تتذكر تفجير مقهى البغدادي في الكرادة الذي استشهد فيه أصدقاء لنا، شهادات الذين نجوا منه تثبت أن “المسكين” الذي فجّر نفسه كان شاباً “منغولياً”، ألبسه الإرهابيون حزاماً ناسفاً ودفعوه ليكون هو وضحاياه المدنيون المسالمون قرابين وحشيتهم ولا إنسانيتهم.
الرجل المختلّ عقلياً لا يزال يتقدّم ليفجّر نفسه بين صفوف قواتنا، فماذا فعل جنودنا؟
في موقف كهذا، وأنت ترى إلى الموت يتقدّم إليك على هيئة رجل مخبول بأسمال رثّة، ما الذي عليك أن تصنع؟
هي الحرب، تضعك بين خيارين: أن تغامر بجعل هذا المجنون يدنو منك أكثر فأكثر لتكون داعش قد حققت هدفها بقتل وإصابة العديد من قواتنا بهذه القنبلة البشرية الموقوتة، أو أن تغمض عينيك قليلاً عن شفقتك وتنقذ نفسك وأخوتك، أن تؤجّل هذه الشفقة من أجل أن لا ينتصر عدوّك عليك.
سيكون حاضراً في ذهنك أن هذا المقطع ليس فيلمَ حركةٍ هوليودياً، كلّ ما فيه حقيقيّ وواقعيّ: لكنها واقعية الواقع الأغرب من خيال صنّاع السينما.
كنت أتوقّع كل لحظةٍ أن يعمد مقاتلونا إلى إصابة هذا الرجل “المسكين”، ليس قتله بالضرورة بل إصابته وطرحه أرضاً ومنعه من التقدّم، لكن أصواتاً تسمعها في الفيلم تقول “خطية لا تقتله ارمي فوق راسه”، وبالفعل جرى إطلاق نار أعلى من راسه وتحت رجليه ليبتعد رسول الموت الذي أرسله صنّاع الموت.
ليس أمامك وأنت ترى هذه الواقعة إلا أن تعيد إلى ذهنك الهجمة الإعلامية “المنظمة” التي أثيرت في الآونة الأخيرة عما سمّي بـ”تجاوزات لا إنسانية ضد المدنيين في الموصل”، بحيث سماها بعضهم “نكبة الموصل” ملفقين حوادث لا يمكن التدبّر من صحتها، ويقفز إلى ذهنك سؤال: أنّ جنوداً في موقف عصيب كهذا يشفقون على رجل فاقدٍ لعقله يتقدّم إليهم لقتلهم، هل يعقل أن يقتلوا مدنيين عزلاً بلا سبب؟
هذا الفيلم وما فيه من موقف إنسانيّ أقنعني أن الإنسان يمكن له أن يظلّ محتفظاً بإنسانيته في أحلك الظروف، وأن جيشنا وقواتنا التي تحرر الموصل من رجس داعش تخوض معركة أخرى موازية، معركة لامتحان إنسانية الإنسان فيهم وقد انتصروا في المعركتين معاً.
تنتهي وقائع المقطع الفيديوي بانسحاب الرجل المفخخ المجنون بعد إخافته، انسحابه سالماً إلى حين، فمؤكد أن داعش ستفجّره بعدها أو سترسله مرة أخرى بحزامه الناسف إلى وجهة أخرى.
الحرب قاسية، وأقسى ما فيها أنها امتحان عسير لقدرتك على أن تظلّ محتفظاً في أعماقك بما يجعلك إنساناً على الدوامن هذا الخطّ الفاصل بين الإنسانيّ والبهيميّ محرّم عليك أن تتجاوزه فأنت مقاتل لا قاتل.
حرف الميم الذي يفرّق بين كلمتي “قاتل” و”مقاتل” حافظ عليه أبناؤنا الأبطال فيما غاب ويغيب عن عقول وأرواح أعدائنا الذين سيندثرون عما قريب.