ليست مزحة

847

دلال جويد/

لم تكن مزحة أبداً، فقد عصرَنا الجوع حتى أن أبي كان يخرج منذ الصباح وحتى آخر النهار كي لا يواجه حيرة أمي لتوفير طعام اليوم، بينما كانت المسكينة تنظر إلي بفزع وأنا أجد أن لا مستحيل في تلك الحياة، فقد تعودت أن أرفع قليلا من كل شيء في الحصة التموينية ليكون طعاماً أبيض في الأيام الحالكة، وكانت أياماً سوداً لا نور فيها.. لذا كنت أفاجئ أمي بما عندي من عدس أو حمص أو رز وأجترح وجبات عجيبة بما هو متوفر حتى أني فكرت أن هذا إبداع أهم من الشعر..

والدي عاد من الأسر في إيران ليواجه حرباً أخرى وبعدها انتفاضة وقمعاً وتجويعاً، لم يستطع أن يستعيد مهنته التي جعلتنا نعيش في بحبوحة قبل أن تأخذه منا الحروب. كانت مقاولات البناء قد توقفت بسبب الوضع الاقتصادي المتردي، ولم تكن هناك بدائل أخرى، فالأولاد طلاب في المدارس ولا أمل في الأفق. لذا لم يجد هذا الرجل الصبور سوى أن يتجول في الأسواق حتى ينتهي النهار كله ولم يشرب خلاله استكان شاي او يأكل حرف خبز، كان يراقب الباعة ويتأمل حياته وهو في منتصف أربعينياتها محملاً بعشر سنوات من الأسر وسبعة أبناء ووالد عجوز وبيت مفتوح لا يعرف بابه كيف ينغلق أو يكون موارباً على الأقل.

ذات صباح استيقظ من نومه لينادي أحد الأولاد كي يذهب معه، لم يقل شيئاً ولم نستطع ان نسأل، فقد آثرنا أن لا نتحدث عن طعام يومنا لأننا نعرف غصّة الألم التي تخنقه حينها..

طبخت طعاماً يسد الرمق، فمن حسن حظ البصرة أن الطماطم رخيصة ومتوفرة لذا يمكن أن يكون هناك حساء على الأقل، بينما بقيت أمي تتساءل أين ذهب أبوكم مع الولد وماذا سيفعلان؟

في المساء عاد صوت أبي عالياً ضاحكاً، ومعه أخي يحمل معه أكياسا كثيرة فيها فواكه، وخضراوات، ودجاج، وسمك.

ناداني أبي بحبور ليقول: خذي هذا المبلغ واشتري ما ينقص البيت..

سألته أمي: من أين هذا، هل اقترضت من أحد؟

قال لها لا لقد اشتغلت اليوم، أخذت بضاعة من ” البسكت” “على التصريف” وبعتها كلها، كان الربح وفيراً وغداً سأذهب مرة أخرى..

شهقت أمي: انت تبيع البسكت في السوق؟

قال لها: أيهما أشرف أن أبيع البسكت أم أترككم تجوعون؟

كان أخي يتحدث كيف أن أبي وقف يعرض بضاعته بحماس بينما هو يبحلق به محرجاً فلم يسبق أن نادى على الناس عارضاً بضاعته، وكان الناس يشترون بإقبال غريب، ربما كان لصوت أبي وبشاشته وحماسه دور كبير في الأمر..

وكنا نستمع الى ما دار في يومهما، وندرك أنها لم تكن مزحة، فقد صار أبي بائعاً للبسكت حتى انفرجت بعض الغمّة وحصل على مقاولة بناء عبرنا بها بعض تلك الأيام…..