صبيحة الشيخ داود..رائدة النهضة النسائية في العراق
ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
في الوقت الذي انطلقت فيه صيحات عدد من المصلحين العرب تدوّي مطالبة باعطاء المرأة حقوقها ومساواتها بالرجل، اجتمعت بعض نسوة بغداد في دار الشيخ أحمد الشيخ داود في قلق باد بانتظار ساعة خلاص السيدة نعيمة عن مولود ذكر، تقر به عيون والديه.
ولكن ما أن وضعتها أنثى، وليس الأنثى كالذكر، حتى سادهن الوجوم، وكست الكآبة وجوههن، فلقد انضمت الى صفوفهن ضحية أخرى تقاسمهن البؤس والشقاء!
اما والدا الطفلة فقد انبسطت أساريرهما على غير المألوف وانشرح صدراهما خلافاً للمعهود، فالشيخ أحمد فقيه تقدمي، ومصلح درس العلوم الدينية فوعى حقيقتها وتعمق في تأمل سنن الطبيعة، فاكتنه ما غاب علمه عن الكثيرين من الأولين والآخرين وايقن أن للمرأة حقوقاً غبنتها غطرسة الرجل وجهالته.
اما السيدة نعيمة، وإن لم تبلغ من العلم ما بلغه زوجها، إذ لم تدرس غير ما كان مباحاً للمرأة دراسته في ذلك العهد، وهو القرآن الكريم فحسب، فقد آمنت بما آمن به زوجها من ضرورة تحرير المرأة من أسرها، ولهذا فرح الشيخ أحمد والسيدة نعيمة بولادة ابنتهما واسمياها “صبيحة” علها تكون “صبحاً” مشرقاً للمرأة في العراق..
وبالرغم من بعد العراق وقتئذ عن نقاط الاحتكاك المباشر بالغرب، ذلك الاحتكاك الذي اتفق المؤرخون على أنه هو الذي أحدث بارقة كان لها ما بعدها، فإنه لم يتخلف عن طليعة الركب بل تجاوب مع كل صرخة صدرت في العالم العربي، وكل انتفاضة حدثت في ركن من أركانه.
وكما صاح في مصر قاسم أمين (1865-1908) صاح في العراق جميل صدقي الزهاوي (1863-1936) ومعروف الرصافي (1875-1945) ونظما في الدفاع عن المرأة وحقوقها درراً من الشعر دخلت دار الخلود من أوسع أبوابها.
وكرّت الأيام ومضت السنون، والمرأة في خدرها تحس بطاقاتها تمور في صدرها كما يمور الماء الغالي في القدر المكتومة وهي تتقلب بين اليأس والرجاء تتطلع الى من يقودها في معركة اثبات الوجود.
رأس الحرية
وساقت الأقدار للمرأة العراقية صبيحة لتكون رأس الحرية، فشقت الطريق منذ حداثة سنها لبنات جنسها، وشجعها على ذلك ما بثه فيها والداها التقدميان من روح الإقدام والجرأة.
كان الاهتمام بالتعليم في العراق قبل الحرب العالمية الأولى ضيقاً، وفرصة للبنين محدودة وللبنات معدومة.
وقد كان أول عهد العراق بالتعليم النسوي عندما قرر الوالي التركي نامق باشا عام 1889 انشاء أول مدرسة بنات للدراسة الابتدائية والمتوسطة دعاها “اناث رشدية مكتبي”.
ولم تشهد البلاد الخطوة التقدمية التالية الا عام 1918، عندما افتتحت زهرة خضر معهداً للبنات بثلاثة صفوف ضم 40 طالبة في وقت واحد، اما الدروس فلم تتجاوز القرآن الكريم والرياضيات وبعض الفنون المنزلية.
أول الطريق
وفي عام 1920 وقعت في العراق هزّة سياسية كانت نقطة تحول خطيرة في تاريخه، كان من اهم نتائجها افتتاح مدرسة رسمية للبنات انتظمت فيها 8 طالبات، هن: باكيزة واصف، وصفية واصف، وصبيحة الشيخ داود، وحسيبة الشيخ داود، وسليمة خضر، ومديحة توفيق الخالدي، وعفيفة توفيق الخالدي، ومديحة صالح.
وبافتتاح هذه المدرسة اقفلت زهرة خضر مدرستها وانضمت هي نفسها للتدريس في المدرسة الجديدة.
وتصف صبيحة هذه الفترة العصيبة التي عاشتها من تاريخ العراق، وما سبقها من مراحل تمهيدية، وصفاً واقعياً شيقاً في كتابها “أول الطريق” فتقول إن هذه المدرسة “ارست الأسس لمرحلة جديدة في تعليم المرأة.. ولكن العاصفة العاتية التي ثارت في وجه القائمين بها ووجه الاسر التي ادخلت بناتها فيها لم تهدأ.
وتطورت المقاومة من السلبية الى الايجابية من الشتائم والسباب والصاق التهم الشائنة.
واختلاف الاراجيف لاثارة العناصر الرجعية، الى الرجم بالحجارة والركون الى وسائل تأنف النفوس الحرة منها وتأباها.
وبلغ الغيظ منتهاه عندما اخذت المعلمات والتلميذات يتعرضن لعدوان طائفة من الفتيان بالقاء الحجارة عليهن حتى اضطرت السلطات الى اتخاذ احتياطات خاصة لصيانة سلامة المدرسة والطالبات، ووضعت حرساً خاصاً من رجال الأمن للمرابطة في باب المعهد.
غير أن تطوراً ملموساً نشأ خلال سنوات قليلة تغيرت فيها المفاهيم، واستسلمت الى حد ما عناصر المقاومة العنيفة، وتبدلت أهداف التعليم النسوي، فأصبحت أعداد مثقفات قادرات على أن يخدمن بلادهن ويسهمن في أكثر من مضمار اجتماعي.
وفي أقل من عشر سنوات خطا التعليم خطوات تذهل العقول. وبسبب الاقبال الشديد على التعليم وجدت السلطات المسؤولية نفسها وجها لوجه عام 1928 ازاء مسؤولية أخرى، هي اعداد المزيد من المعلمات لمدارس اناث التي تتزايد يوماً بعد يوم، فتم في ذلك العام فتح أول دار للمعلمات بصف واحد ضم خمس طالبات كانت صبيحة احداهن.
غير أن هذه الدار عملت بانشاء المدارس الثانوية للبنات، ففي عام 1930 تأسست أول مدرسة، وقبل فيها عدد من الطالبات كانت أحوال قليلات منهن تهيئهن للتعليم الجامعي جنباً الى جنب مع الرجل على مقاعد الدراسة.
الجولة الأولى
وتروي صبيحة قصة طريفة وقعت لها عام 1922 وهي لا تزال صبية صغيرة.
فقد اقيم في ذلك العام مهرجان “سوق عكاظ” الأدبي في الكرخ وادرج منظموا المهرجان اسمها في برنامجه للقيام بدور “الخنساء” والقاء قصيدة من قصائدها.
فقامت قيامة المتزمتين، وكادت تتمخض عنها أزمة وزارية، وأن تدفع العصبية الى إعلان ما يقارب حرمان المرأة من كل ما قد اكتسبته حتى ذلك الحين والرجوع الى ما كانت عليه من عزلة!
وجرت محاولات عديدة لمنع صبيحة من الظهور لكن الشيخ داود وقف الى جانب ابنته لتسجل في المهرجان نصراً ثانياً في الدور القيادي.
الجولة الثانية
وبعد ما يقرب من 14 عاماً عادت قوى الرجعية الى لم شعثها من جديد للقيام بجولة ثانية مع المرأة ممثلة في شخص صبيحة.
فقد عقدت العزم متذرعة بالمثابرة والايمان والصبر وبتشجيع والدها واخيها الواعي سلمان على دخول كلية الحقوق للدراسة فيها الى جانب الطلاب الشباب!
نعم! الى جانب 180 طالباً بعضهم، كما قال لها ولوالدها وزير المعارف يومئذ من الأرياف!
وحاول الوزير عبثاً ثني الشيخ أحمد عن الحاق ابنته بالكلية مدخلا في روعة ان ذلك سيؤثر في سمعة ابنته ووضعها الاجتماعي، محبباً اليه اعدادها لتكون معلمة او مربية.
غير أن صبيحة كانت أول فتاة مسلمة في عام 1936 تدخل كلية في العراق، بعد أن نزعت عن وجهها الحجاب وبقيت متمسكة بالعباءة!
وقد افرد مقعد الى جانب من الصف، اطلق عليه الطلاب مجازا اسم “اللوج”! فقضت السنة الأولى كأنها في سجن، لا تتحدث مع أحد ولا يتحدث معها الى القليل!
وكانت تجلس فوق مقعدها أربع ساعات كل يوم قابعة في عباءتها!
وكم من مرة اسمعها زملاؤها كلمات نابية كانت تتألم لها ولا ترد عليها!
وبالرغم من كل المشاق والآلام التي اكتنفت هذه الفترة، فقد كان لثبات صبيحة واعتدادها بنفسها وبالمقومات الخلقية والأدبية التي تدين بها واستعانتها بالصبر والجلد، أكبر الاثر في هزيمة المكابرة والمقاومة اللتين واجهتهما من بعض الطلبة.. واستحالت تلك المعارضة والجفوة بعد قليل من الزمن الى طابع من الشعور بالندم!
وقد شجع دخول صبيحة كلة الحقوق الكثيرات على سلوك هذا الطريق السوي بحماسة ظاهرة واقبال كبير، واسهمت السلطات بدورها في الاخذ بالتيار الجديد، ففتحت أبواب الكليات للفتاة العراقية ومنحتها جميع التسهيلات.
على مسرح الحياة
لم تكتف صبيحة بما حصلت عليه من العلم في العراق فتوجهت الى القاهرة حيث التحقت بجامعاتها وعادت منها بشهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية!
وعملت ردحاً من الزمن مفتشة في المعارف، ومارست مهنة المحاماة بين عامي 1956 و1957.
وتوالت الأحداث لتسجل الدكتورة صبيحة انطلاقات جديدة للمرأة العراقية، فقد عينت قاضية في محاكم الأحداث التي انشئت عام 1958، وهكذا كانت أول امرأة تغزو هذا الميدان!
وقد حدثتني فقالت إن وجود القاضية في مثل هذه المحاكم أمر ضروري، وتفسر ذلك بقولها:
وجدت من خبرتي وتجاربي أن موضوع الاحداث اجتماعي اكثر منه قضائي. والاحظ ان الحدث الجانح يتقرب الي، بصفتي امرأة، أكثر من تقربه الى القاضي، ويفصح لي عما يجول في خاطره بصراحة أكبر وبثقة أعظم، وكأنه مطمئن الى أنني سأساعده واعطف عليه. وعلمت من الدكتورة صبيحة أن محاكم الاحداث الاخذة بالازدياد في العراق مختلطة، اي انها تنظر في قضايا الجانحين والجانحات، غير ان قضايا الجانحات أقل بكثير من قضايا الجانحين، وتقول أن نسبتها هي 10 الى 400. وتترسم هذه المحاكم في ادارتها نظام المحاكم الانكليزية، ولكنها لا تتوانى عن الافادة من اختيارات نظم محاكم الاحداث في معظم بلدان العالم.
وتبدي القاضية صبيحة سرورها لأن قضايا الاحداث الجانحين في العراق ليست خطيرة بوجه عام، وتقول أن القضايا الخطيرة لم تتجاوز حتى الآن الخمسمائة، اما الباقي فهي مخالفات أكثر منها قضايا، ونسبة قضايا الفتيات ضئيلة جدا لا تكاد تذكر. وفي العراق اصلاحية واحدة للاحداث الذكور، وقد شرعت السلطات في انشاء اصلاحية أخرى. وقالت لي محدثتي انها راضية عن الوضع في الاصلاحية القائمة، لان الحاجة الى مثيلاتها ليست ماسة جدا كما هي الحال في بعض البلدان.
وسألتها عن رأي البروفسور غوليك الأميركي وزوجته بشأن امكان التكهن بالميل الى الجنوح لدى الطفل وهو في سن الخامسة والنصف، فأجابت بانها لا توافق على هذا الرأي، وتضيف قائلة ان الطفل لا يخلق ولديه ميل طبيعي للجنوح، بل ان جنوحه يتأتى نتيجة تأثير الوضع والبيئة والعشرة..
وتعتقد ان الميل الى الجنوح يظهر بين الأطفال العرب وهم في سن تتراوح بين السابعة والثامنة عشرة.