عندما اجتمع على بغداد الحصار والفيضان والطاعون.. وملا علي!

845

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

كانت ولاية بغداد في سنة احدى وثلاثين وثمان مئة وألف قد تهيأ فيها الحال لتقلب صفحة جديدة من تاريخها الحافل بالمآسي والملمات، فقد تهيأت الظروف لعلي باشا السلاط والي حلب لان يدخل بغداد فاتحاً ومحرراً بعد أن صدرت الأوامر بذلك وجهز بالمبالغ والجيوش ليضطلع بمهمته العسيرة.

ولم يكن من الممكن لعلي رضا باشا، بالجيش الهزيل الذي زحف على رأسه الى بغداد، ان يفتحها ويتغلب على داود باشا وقواته النظامية الباسلة فيها لولا ان تهب الى نجدته الأقدار وتمهد له الطريق عوارض الطبيعة وأيدي الحدثان في الوقت الذي وصل اليه الى الموصل واخذ يعد العدة للزحف على سيدة البلاد، والقضاء على دولة المماليك فيها الى الأبد، داهم العاصمة العريقة طاعون مخيف قضى على الالاف المؤلفة من سكانها في أيام معدودة وصير مرابعها خرايا بلقعا، وبينما كان الطاعون الوبيل يأخذ بخناقها ويمتص عصارة الحياة من أوصالها، وفي الوقت الذي كانت تصارع فيه هذا الشر المبيد وحيدة فريدة في الميدان غضبت الطبيعة فطغى دجلة الجبار طغيانه المعروف ففاضت لججه المتدفقة في أزقة المدينة وحواريها الضيقة فتهدمت بسببها سبعة الاف دار في يوم واحد وتلتها مئات عديدة أخرى بعد ذلك وقضت على من كان فيها من السكان الفزعين المنهكين.

ومع هذا لم يجد علي رضا باشا حينما احاط ببغداد على اثر ذلك من السهل عليه ان يفتح العاصمة المهيضة، فتطاولت أيام الحصار عليه ولم يتم الفتح في الأخير الا بالحيل المقيتة والخيانة المدبرة.

وحينما قبض الله له النصر على مثل هذه الشاكلة بادر الى تنفيذ الخطة الموضوعة له في الحال، واخذ يستعد للقضاء على المماليك بأجمعهم واستصفاء من كانوا قد جمعوا من ثروة وممتلكات خلال السنين التسعين التي حكموا العراق فيها من سراي بغداد العتيد، وكان عليه بعد هذا ان يبعث بكل ما يتجمع من المال بهذه الطريقة الى الخزانة الهمايونية في الباب العالي، لتنفس به عن ضائقتها المالية الخانقة وتخفف بواسطة عن أعبائها المرهقة.

غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فقد تبين لعلي رضا باشا، وعارف افندي الدفتري مبعوث الباب العالي لهذه المهمة، أن كثيراً من الثروة التي كان يحلم بها أولياء الأمور في دار السعادة قد تبددت وعبثت بها ايدي الارزاء التي حلت ببغداد، ونهب قسم غير يسير منها خلال الحوادث التي رافقت الفتح قبل استقرار الأمور فيها، كما وجد أن معظم السجلات والدفاتر قد فقدت خلال تلك الحوادث المؤسفة ، ولم يعد من الممكن التأكد من أشياء كثيرة، ومع هذا فقد وجد علي رضا باشا نفسه مجبراً على تدبير مبالغ طائلة من المال في كل سنة لسد الافواه الفاغرة في استانبول واشباع جشعه المسنون، ولذلك فكر في طرق ووسائل أخرى يبتز بها الأموال من أهلها، ويعتصرها من بلاد منكوبة وسكان مرزوين، وانتخب من أجلها أناساً ماتت ضمائرهم وتجردوا من كل ما يمت الى الشفقة والرحمة والإنسانية بسبب، وجلاوزة قست قلوبهم وتبلدت مشاعرهم، فأرخى لهم العنان وترك لهم الحبل على القارب، وراحوا يظلمون الناس ويصادرون أموالهم ويبتدعون الوسائل المختلفة والضرائب التي لم يألفها السكان لابتزاز ما يمتلكونه من ثروة او عقار.

وقد عرف على عهده عدد من هؤلاء الجلاوزة ممن تخلدت أسماؤهم في صفحات التاريخ باحرف الخزي والعار من أمثال الملا علي كاتب مقاطعة الخالص ومحمد الليلاني وعلي اغا اليسرجي وحمدي بك وعبد القادر الكمركجي والحاج سعد النائب وعثمان سيفي بك، ولكل من هؤلاء سجل حافل بأنواع شتى من أعمال الظلم والجور، ووسائل الإرهاب والتعذيب التي كانت تستعمل لاستخراج الأموال المدفونة من مخابئها وابتزام المبالغ القليلة والكثيرة من كل من كان يوقعه حظه السيئ في قبضة ايديهم، على انني سأكتفي هنا بسرد ما عثرت عليه عن احدهم في هذا الشأن وهو الملا علي كاتب مقاطعة الخالص.

فقد كان الملا علي هذا كاتباً صغيراً من أصل حقير يمت بصلة غامضة الى بعض القبائل غير العربية في لواء ديالى، وكان دميم الخلقة قميء الشكل قبيح المنظر.
تبدو في نظراته وقسماته مخائل القوة وامارات المكر.

فتسنى له في غفلة من الزمن ان يكون معتمد الباشا الوالي وموضع ثقته، فقدمه على غيره وعهد اليه بابتزاز الأموال وجمع الضرائب بعد ان جربه في ملاحقة المماليك واستصفاء ثرواتهم وممتلكاتهم فقد تفنن مع جمع نزيه من أمثاله في الاضطلاع بهذه المهمة، وصاروا يغشون البيوت ويعتدون على النساء المخدرات فيسومونهن أنواع القسوة والعذاب، كما فعلوا في بيت رضوان اغا المقتول في مجزرة المماليك، فقد ضربوا زوجته بالفلقة، وكووا جسمها بالسياخ المحمية لاستخراج ما كان عندها من ثروة ومال.

ثم جعل بيده “ميري” العشائر حتى صار رجلاً مخيفاً يحسب له الحساب في مجالس بغداد وأنديتها، واخذ البعض من وجوهها واشرافها يكرمونه ويتزلفون اليه ترضيه للباشا الوالي.

وميري العشائر هذا هو “الخانه” او ضريبة البيتية، التي كانت تفرض على كل فرد منهم بمقدار خمسة عشر قرشاً للشخص الواحد، لكن ملا علي حينما تولى الامر ضاعف هذه الضريبة اضعافاً كثيراً وجعلها تتراوح ما بين الثلاث مئة قرش والألف وخمسة مئة بحسب ما يهوى ويشتهي.
ولذلك فكثيراً ما كان يعجز الفلاحون وغيرهم من رجال العشائر عن دفع هذه الضريبة المرهقة فيعمد الملا الى مقابلتهم بأشد من ذلك ظلماً وقسوة، فقد كان يخرج اليهم فيغصب ممتلكاتهم من دون رادع، ويصادر أغنامهم وسائر حيواناتهم ودوابهم فيبيعها بيعاً اجبارياً في المدن والقرى باضعاف أثمانها وقيمتها، وكثيراً ما كان يبيع الأغنام بهذه الكيفية على جزاري بغداد وقصابيها، ويرمي بالبقر على أهل البساتين، وقد يتجاوز هذا الحد فيجبر اصحاب الدكاكين في اسواق بغداد على شراء هذا البقر والجاموس باضعاف قيمته من دون ان تكون لهم حاجة به، او ان يكونوا قادرين على ايجاد المأوى اللازم له في بيوتهم. ولذلك فغالباً ما كان يشاهد هؤلاء يدورون به في الطرق والأزقة وهم حائرون ببيعه وعاجزون عن التخلص من اعبائه ومصاريفه.

وحينما كان يعجز عن ايجاد شيء يستحق المصادرة كان الملا علي يعمد الى حبس الناس في بيته وضربهم ضرباً مبرحاً ولا يطلق سراحهم حتى يكون بوسعهم تدبير المال المطلوب ببيع ملك يملكونه، او بالاستدانة الصعبة وهم في سجنهم عنده، ولم يكن يكتفي بذلك فقط، وانما كان يقصد الميدان ببغداد ايضاً، ويدور في الطرق والشوارع، حتى اذا ما وجد فرساً جميلة او مهراً أصيلة صادره من صاحبه عنوة واخذه لنفسه بكل وسيلة، وقد اغتصب بهذه الطريقة عددا من الخيول الاصيلة المعروفة التي كانت تعود الى البعض من مشايخ العرب وسراة الناس، من دون ان يكونوا قادرين على الاعتراض او الممانعة.

ولم يكن ملا علي ليتورع في اعماله هذه عن اقتراف اية جريمة او مخالفة، ولم يشمل باعفائه جميع من كان يستحق الاعفاء، فقد ادخل الهاشميين الذين كانوا معفيين من الضرائب في العادة، في قلم الميري كذلك وصار يتقاضى ضريبة البيتية منهم ايضاً.
وبلغ به الطغيان الى حد انه اخذ يعتدي بالضرب على من يشاء في الازقة والطرقات، ومما يروى عنه في هذا الشأن انه ضرب ذات يوم امرأة على الجسر كانت تعترض طريقه فأصابت ضربته منها مقتلاً وماتت في الحال، من دون ان يتجرأ على معاقبته احد عن هذه الجريمة لأن الباشا كان يحميه ويطلق له العنان في تصرفاته.

على انه كان يجمع النقيضين في سلوكه وشخصيته على ما يبدو، لانه مع هذا الظلم الفاحش كله وهذا العمل المشين المخزي كان يتصدق على بعض الفقراء من الناس ويمدهم بالعون والمال.

فكأنه كان يجمع الصيف والشتاء في سطح واحد على ما يقال.

ولذلك لم يكن من المستغرب والحالة هذه ان يجد السياح والمسافرون في ايام علي رضا باشا، من امثال فريزر وغيره، ان البلاد كان يعم فيها الخراب وان زراعتها في بوار.