خولة الفرشيشي لـ”الشبكة”: الثقافة الشعبية تنتعش في فضاء الحمّام
خضير الزيدي/
يحتل فضاء الحمّامات الشعبية في ذاكرة الفرد العربي مجالاً واسعاً من ذاكرته، فله خصوصيته التي تشير الى طبيعة مختلفة تتمثل في مصالحة الجسد مع كيانه الخارجي، وبذات الوقت يأخذ تأمل الجسد حيزاً كبيراً بين أنظار الآخرين. وبما أن الحمّامات تحمل طابعها الشرقي فهي مليئة بزخارف الأساطير والحكايات الشعبية…
ومن أجل كل ذلك توقفنا مع صاحبة كتاب (الجسد في الحمّام) خولة الفرشيشي لنتطرق إلى المسكوت عنه في ثقافة الحمّام.
إعادة الحفر في الذهنية
* لنتحدث عن أهمية البحث الفكري والاستقصائي لدراسة الحمّامات الشعبية؟
-إنّ التعرض لمثل هذه المواضيع هو إعادة الحفر في الذهنية تجاه مواضيع شائكة ومعقدة ومازالت تعاني مقصّ الرقيب الاجتماعي والثقافي. فموضوع الحمّام يرتبط أساساً بعري الجسد واحتكاكه بأجساد أخرى عارية، فيصبح المشترك هو العري ليغدو مشكلاً كبيراً في الذهنية العربية والإسلامية المحافظة التي تعاملت بصرامة مع المواضيع الحسّاسة. فما يزال هذا الموضوع مسكوتاً عنه وخاضعاً بطريقة غير مباشرة للرقابة الدينية والثقافية، فالبحث في ظاهرة الحمّام هو إحالة على علاقة الجسد بهذا الفضاء وهو ما أعتبره مدخلاً إلى توسيع الرؤية وتمثّلها في ثقافته وذلك بوصفه فضاء يتقاطع فيه الثقافي والاجتماعي.
فضاء الحمّام الإسلامي
*حسناً، أود أن أسألكِ ما أوجه التشابه والاختلاف بين الحمّام الروماني والحمّام إلاسلامي ..؟
-أغلب المصادر تحدثت على أنّ فضاء الحمّام الإسلامي يعتبر وريثاً للحمّام الروماني وذلك لمحافظته على الغرف الثلاث: الساخنة والمعتدلة والباردة، مع إدخال تغييرات طفيفة في بنائه الموفولوجي لتمنح الزائر خصوصية وحميمية في الاغتسال يفتقدها مرتاد الحمّام الروماني المميز بالفخامة والضخامة حيث يمكنه أن يستقبل مئات المرتادين، فهو لم يقتصر على الاستحمام والنظافة فقط بل كان أيضاً مكاناً للترفيه والترويح عن النفس لما يحتويه من مطاعم وحدائق وقاعات ضخمة لعقد الاجتماعات، ولا نجد هذا البذخ في الحمّام الإسلامي. فقد خصص الحمّام الإسلامي لصالح وظيفة الطهارة في أول بنائه حتى وإن شهدت الحمّامات زخرفاً وبهرجاً في بنائها فهي لم تصل إلى ضخامة ووسع الحمّام الروماني.
*ماذا عن الاختلاط بين الرجال والنساء؟
من الطريف أنّ نتحدث عن ظاهرة الاختلاط بين النساء والرجال. فقد ذكر “عبد الوهاب بوحديبة”، المؤرخ التونسي، في كتابه “الجنسانية في الإسلام” أنّ الدخول إلى الحمّام الروماني كان دخولاً مختلطاً: لم يكن هنالك، في عهد ترجان مثلاً، ما يحول أن تغتسل النساء مع الرجال، وبينهن الكثيرات اللواتي كانت تجتذبهن الرياضة التي تسبق الاستحمام في المياه المعدنية واللواتي كنّ بدل العزوف عن إشباع رغباتهن يفضلن المجازفة بسمعتهن وممارسة الرياضة مع الرجال، ولم يتم فصل الرجال عن النساء رسميا في الحمّامات إلا مع الإمبراطور “HADRIEN”.
*هل اكتشفتِ طقوساً غريبة ممكن أن تشيري إليها؟
-سأروي لك شيئا أعتبره مهماً في الذاكرة الشعبية التونسية، فقد ارتبط فضاء الحمّام في الذاكرة الشعبية بكثير من الأساطير ومنها أسطورة حمّام الذهب بنهج الذهب بالمدينة العتيقة بتونس وتحديداً في منطقة باب سويقة، ويطلّ سطح الحمّام على فناء جامع سيدي محرز وهو ما يؤيد وظيفته التعبديّة الأولى، الطهارة، خاصة يوم الجمعة حين يؤدي المسلمون صلاة الجمعة في الجامع ليكونوا قد قصدوا الحمّام للتطهّر والنظافة . تقول الأسطورة الشعبية والمنتشرة بكثرة في المدينة العتيقة بتونس أنّ الحمّام ابتلع ذات مرّة صبيّة بعد أن أنزلتها أمّها إلى قاع الحمّام عن طريق فتحة أرضية للبحث عن كنز، وكانت الصبيّة تمدّ أمها بسبائك الذهب وتخبرها أنّ الحمّام سينطبق عليها وأنّ الجان الأحمر سيخطفها ويبقيها هناك، أي تحت الأرض، ولكنّ الوالدة كانت تتلهف إلى المزيد من الذهب ولم تكترث بما تقوله ابنتها إلى أن أطبق الحمّام على جسد الصبيّة ولم يترك منها سوى شعرها الذي ينبت كل يوم في الأسبوع الذي يصادف يوم ابتلاعها .. منذ انتشار تلك الأسطورة أصبح حمّام الذهب مقتصرا على الرجال ولم يستقبل النساء منذ أكثر من 400 سنة.
صعوبة في البحث
* هذا الكلام عن الأسطورة الشعبية، إذن دعيني أسالك هنا عن المشاكل التي تواجه الدارس لمثل هكذا مواضيع ..؟
-أولا ندرة المراجع والمصادر التي تناولت موضوع الحمّام ، فلم يكتب العرب كما كتب المستشرقون عن مؤسسة الحمّام، ربما يعود ذلك إلى صرامة الثقافة العربية والإسلامية التي تحرّم البحث في مثل هذه المواضيع. ثانياً تحفّظ النسوة في الحديث عن علاقتهن بالفضاء لأنّ ذلك يرتبط أساساً بالجسد والمرأة العربية والمسلمة لم تتحرر تماماً من عائق الجسد، إذ أنها مازالت تعامله على أنّه كيان مستقل عن ذاتها لا تملكه ولا تستطيع الحديث عنه، ما يشكّل صعوبة بالبحث في استنطاق تمثّلات ورمزيات الجسد.
* هل ينطبق هذا التوصيف على العوام من الناس، وهل وصفك مرهون بسلوكية متفردة لبعض النسوة أو هي ظاهرة ؟
-نتحدث عن ظاهرة لا عن سلوك فردي منعزل إذ يمكن أن نقرأ من خلال الجسد ثقافة المجتمع لأننا نستطيع وضع نظرية لتقنيات الجسد انطلاقاً من الملاحظة والوصف. وتقنيات الجسد هي “الطرق التي يعرف بها الناس في هذا المجتمع أو ذاك” حسب عالم الاجتماع مرسال موس. فقد حاولنا من خلال حركات الجسد وتقنياته في الحمّام أن نستنطق ثقافة المجتمع . يخضع الاستحمام إلى مراحل تحدّده الوحدات المورفولوجية، فعند الدخول إلى الحمّام إلى غرفة البدل أو الاستقبال تقطع المرأة علاقتها تدريجيا بالعالم الخارجي وإن لم يكن ذلك نهائياً في قاعة البدل وكأنّ كل قطعة من ملابسها تنزعها من على جسدها تحضرها في انفصالها عن الخارج،