ضاحية المحرومين في بيروت.. تاريخ من التعايش الجميل بين الأديان
جبار عودة الخطاط /
هذا ما طلبه مني سائق الفان رقم 4 (الميكروباص) الشاب بلهجته البيروتية، وكنت متوجهاً الى الضاحية الجنوبية. أغلقت الباب وجلست في المقعد القريب منه ..سألت السائق الشاب، بلهجتي العراقية، عن عمله وكم مضى عليه فيه، فأجاب بأنه يعمل في هذا الكار منذ ثلاث سنوات، وأنه ترك الدراسة بعد أن أكمل الإعدادية، فلا قِبل له على توفير أقساط الدراسة الجامعية ..
هنا قال لي أبو ملحم جليسي في الباص:
“إنه لا يتصور الضاحية بدون الفان رقم 4 فهو قد أضحى من علاماتها الفارقة والمحبوبة.”
تنطلق يومياً رحلات الباص المكوكية التي لا تهدأ لتصل إلى شارع الحمرا الشهير، ثم تغذّ السير عائدة إلى الضاحية، وهي تحمل ركاباً جدد، وغالباً ما تدلف الى الشوارع الفرعية الضيقة (الزواريب) للهروب من الزحام في الشوارع الممتدة بين “حي الجامعة” (المريجة) ومستشفى الجامعة الأميركية في الحمرا، رحلة تمر في شريطها على وجوه وأحاديث، ونقاشات، و(تحليلات) سياسية بعضها ناقمة، ولا تخلو من نكات ومواقف طريفة أيضاً!
تأريخ ضاحية المحرومين
سألت أبا ملحم (جميل حرب)، وهو مدرس التأريخ المتقاعد، عن تأريخ الضاحية الجنوبية لبيروت، فقال وهو يطلق دخان سيجارته عبر نافذة الفان رقم 4:
هي “ضاحية المحرومين” كما سماها الإمام المغيَّب موسى الصدر، وفيها ولد الأمير بشير الثاني الشهابي الكبير وهو أحد أمراء جبل لبنان الذين حكموا المنطقة من سنة 1697 حتى 1842 والذي يعد أحد أشهر الأمراء في تاريخ لبنان وبلاد الشام عموماً. تبلغ مساحتها بحدود 28 كيلو متراً مربعاً تمتد من مشارف خلدة جنوباً إلى الجناح والطيونة شمالاً، ومن عين الرمانة والحدث شرقاً إلى شاطئ الأوزاعي غرباً.
التعايش الجميل
والضاحية، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون، هي مسقط رأس الرئيس ميشال عون، وهذا مردّه التعايش الجميل بين المسيحيين والأغلبية المسلمة (الشيعة) كما سيرِد، والضاحية هي اليوم معقل حزب الله، حتى أصبح الحزب والضاحية أيقونة لا يمكن فصلهما، فضلاً عن حركة أمل بزعامة الأستاذ نبيه بري في تواشج اجتماعي وسياسي لافت بين الفريقين (الشيعيين) البارزين، وقد شهدت الضاحية في حرب تموز خراباً كبيراً، إثر عمليات القصف الهائلة للعدو الإسرائيلي عام 2006، وقد أعيد بناؤها بعد انتهاء الحرب وتحقيق الانتصار الكبير.
إشارة المؤرخ التنوخي
ولعل أقدم اشارة تاريخية للضاحية جاءت في مخطوطة المؤرخ صالح بن يحيى التنوخي (ت بعد 1453 م)، فقد أورد كيف ان سكنة البرج – تعرف اليوم ببرج البراجنة – امتنعوا عن دفع الإتاوة لأحد الإقطاعيين من الأمراء الدروز، والذي أرسل أحد عبيده مدججاً بالسلاح، فانتفضوا عليه وقتلوه وألقوا بجثته في البئر الذي يُعرف اليوم ببئر العبد، المنطقة التي تعد اليوم مركزاً تجارياً وسكنياً معروفاً تجاور (حارة حريك) في الضاحية.
طلبت من أبي ملحم أن يعرج الى التأريخ الحديث للضاحية فقال:
شهد لبنان في مطلع الخمسينات بزوغ الأفكار القومية واليسارية والاشتراكية، وكانت بيروت مسرحاً لحراكها الذي اتخذ أشكالاً عدة، الضاحية انحازت لطروحات جمال عبد الناصر، واختار أغلب شبابها الخيار القومي وقسم منهم تفاعل مع الأفكار اليسارية.
بوادر مشروع المقاومة
وفي نهاية الستينات ومع مجيء الفدائيين الفلسطينيين إلى لبنان، قوبلوا بتأييد أبناء الضاحية وانخرطت أعداد كبيرة منهم في صفوف المقاومة الفلسطينية للعمل الحركي ضد المحتل لتكون النواة التي شكلت فيما بعد مشروع المقاومة الإسلامية، الذي شهد لبنان انطلاقته حينما أرسى دعائمه السيد موسى الصدر بتشكيله حركة أفواج المقاومة الإسلامية، التي سميت بحركة أمل لمقاومة العدوان الإسرائيلي عام 1975وهو العام الذي بدأت فيه الحرب الأهلية في لبنان.
سألته عن بوادر تشكيل حزب الله في خضم ذلك فأجاب:
في 1982 شَمّر شباب الضاحية عن سواعد المقاومة ضد عدوان المحتل، فتشكل تنظيم المقاومة الإسلامية المعروف بـ (حزب الله) الذي ألحق الهزيمة بإسرائيل في عام 2000 وفي حرب تموز 2006
وعن المكانة الستراتيجية للضاحية قال أبو ملحم: الضاحية تتبع إدارياً اليوم محافظة جبل لبنان، وهي تتمتع بموقع ممتاز اذ يوجد فيها مطار رفيق الحريري الدولي والجامعة اللبنانية والمستشفى الحكومي الكبير، وتتوسط الساحل الجنوبي لبيروت وجبل لبنان في شرق العاصمة، وفيها عدة مناطق بلدية أبرزها: حارة حريك، وبرج البراجنة، والمريجة، والأوزاعي، والشيّاح، وتحويطة الغدير، وحي السلم، والليلكي.
يربو عدد سكان الضاحية على المليون نسمة غالبيتهم من الشيعة، وتنحدر أصول أغلبهم من البقاع والجنوب، فضلاً عن اللاجئين الفلسطينيين والسوريين.
وفيما كان أبو ملحم يسترسل في حديثه، قطع حديثه صوت راكب من الخلف مخاطبا السائق:
“اعمال معروف نزلني هون”
فقلت لأبي ملحم: نكتفي بهذا القدر شاكراً أريحيته وجميل معلوماته.