سوق الشيوخ ..المدينة التي صارت نموذجاً فريداً للتعايش

2٬327

 حيدر قاسم/

بينما كان العراق يستعر من أقصاه الى أقصاه في حرب فرضها الطائفيون، لاسيما في المدن والأحياء ذات التنوع العرقي والطائفي، خلال الأعوام التي أعقبت تفجير مرقد الإمام الحسن العسكري وحتى العام 2007، فإن مدينة سوق الشيوخ حولت ذلك الصراع الى فرصة للتعبير عن ذاتها وجذورها التأريخية، فجعلت منه قوة لنسيجها المتنوع المنيع عبرت عن وعي أهلها ومقدار تلاحمهم الاجتماعي، فرسمت أبهى صورة للتعايش في هذه المدينة، وحتى تجاوزت البلاد المنعطف الطائفي لم تتأثر سوق الشيوخ بمناخه السيئ.

بوتقة التعايش

في هذه المدينة العريقةُ، لا يزال التاريخ يحاكي الحاضر، ولا تزالُ شوارعها المليئة بالشمس والحياة، تروي قصصاً عراقيةً خالصة عن تعايش فريد شهدتهُ هذه القصبة، ولا تزالُ تكتبُ قصصاً أخرى.

يقول القاص فاهم العفريت في حديث لـ ” الشبكة”: “هذه مدينةُ صهرت الجميع في بوتقة التعايش وكتبت حكايات الماضيين بحروف على سفر خالد. لم تعرف منذ أن اختارها القادمون إليها وطناً وموئلاً، معاني الافتراق، أو الكراهية أو الاحتراب. ”
يعودُ تأسيس مدينة سوق الشيوخ بالتحديد إلى العام 1761 م، حين قرر الشيخ عبد الله المانع تأسيس مركز ثابث لإمارة المنتفق يجتمعون فيها لغرض التشاور ومناقشة أمورهم العشائرية ويكون مخزناً لذخيرتهم ومؤنهم، بحسب دراسة علمية غير منشورة للباحث أحمد حاشوش.
المدينة التي شُيدت على أطلال حضارة مندرسة، كانت قبلةً للباحثين عن مكان يحتضنهم ويعيد روابط حياتهم التي تفككت بفعل عوامل متعددة.

حي البغادّة

يقول الكاتب صباح الحمداني، الذي ألف كتاباً عن تاريخ سوق الشيوخ، إن ” المدينة التي تأسست قبل ثلاثة قرون تقريباً، كانت تضم في بدايتها، أربع محلات شهيرة، لا تزال قائمة لغاية الآن”.

ويضيف “أسس هذه المحلات الأربع في الغالب، مهاجرون استوطنوا هذه الحاضرة الجديدة، فكان أن استقر النجديون ( وهم أسر عربية نزحت من نجد) حياً أسموه حي النجادة، فيما أسس القادمون من الأحواز حياً يسمى الى يومنا هذا بالحويزة، فيما سكن القادمون من بغداد والحواضر الكبرى في حي يسمى حي البغادّة، فيما تجمع الموظفون الأوائل وبعض النازحين من العشائر في حي رابع يسمى بالحضر “.

النجديون

وعن هجرة النجديين إلى سوق الشيوخ، قادمين من الجزيرة العربية، يقول الدكتور عماد الموسوي، وهو اكاديمي ألف كتاباً عن تاريخ السوق ايضاً، إن صراعاً دامياً شهدته الجزيرة العربية في مطلع القرن الثامن عشر بين آل سعود والحركة الوهابية من جهة، والقبائل العربية التي تستوطن نجد خصوصاً دفع بالعديد من هذه العوائل الى الهجرة صوب العراق، واختيار مدن جديدة كسوق الشيوخ والزبير والخميسية وغيرها من القصبات العراقية، موطناً جديداً لتزدهر هذه المدن بالقادمين الجدد، رغم الاختلاف القبلي والمذهبي مع سكان جنوب العراق.
يضيف الموسوي “توافدت الأسر النجدية الى سوق الشيوخ بأوقات مختلفة، وتعد قبائل الظفير من أوائل القبائل التي هاجرت من نجد واستقرت في العراق، ويعود ذلك الى العام 1808 م، عندما فروا من الحركة الوهابية. “

وعن تلك الأسر والقبائل التي وصلت سوق الشيوخ، يقول “من هذه العوائل، ابو الخيل، والتويجري، آل مهاوش، الشمالي، الزويد، العثيم، الزمام، الحميضي، العقيلات، الدهيم، الفايز،المضيان، الفلاج، الدبيان، الصعقي العكلة، السبيعي، المنصور، العضاض، الكنعان، الريش وغيرها من الأسر والقبائل “.

ويشير إلى أن من الأسر التي هاجرت واستوطنت سوق الشيوخ، ومن ثم أسست إمارة كبيرة، هم عائلة آل خميس الذين أسسوا هذه الإمارة التي لا تزال إطلالها شاهدة لغاية الآن على تنوع مذهبي وتعايش فريد.

تفاعل خلاق

وعن التنوع المذهبي وأثره في التعايش بين المكونات الاجتماعية يقول الباحث صباح الحمداني لـ “الشبكة”: “في الواقع بحثتُ طويلاً في التغييرات الديموغرافية والتنوع القبلي في هذه المدينة، وأثر هذا على التعايش، فلم أجد سوى تفاعلاً خلاقاً حول هذه المدينة القصية جنوباً إلى ملتقى تجاري، ومركز استقطاب حين كانت حدود البلاد مفتوحة أمام الهجرات”.

ويضيف: “على الرغم من الاختلاف المذهبي لهذه العوائل المهاجرة، فبعضها قادم من نجد والجزيرة العربية، وبعضها قادم من الشرق وخصوصاً من أحواز إيران ذات القبائل العربية، إلا أن هذا التمايز المذهبي لم يكن سبباً في صدام ولا عامل في تفرقة هذا النسيج”.
وعمّا اذا شهد تاريخ المدينة المتنوعة طائفياً ودينياً أية حوادث أو اشتباك ديني – مذهبي، ينفي الحمداني هذا، ويقول “نقبت بهذا الملف طويلاً فلم أجد ما يدل على وجود تناحر مذهبي، ولا حوادث على هذا الأساس، بل العكس تماماً كانت التعايش هو السائد، وكانت المحلات الأربع تتكامل في أدائها للنهوض بالمدينة”.

مساجد النجادة

من بين المساجد التاريخية في سوق الشيوخ، يقول الشيخ أحمد النجدي، وهو امام مسجد، لـ “الشبكة” : “هناك مسجد يمتد عمره الى مئتين وسبعة عشر عاماً، ولا يزال قائماً، ويسمى مسجد النجادة حيث شيد في العام 1800م تقريباً، كما أن هناك مساجدَ أخرى، كمسجد الصفا، حيث شيد هذا المسجد في العام 1780م على نفقة المحسن ثويني السعدون.”

التنوع الديمغرافي

وعن التنوع السكاني والتركيب الديموغرافي، يقول الباحث إياد الحسني في دراسة له: “نجد أن المسلمين الإثني عشرية، أتباع الإمام جعفر الصادق عليه السلام، بصرف النظر عن العرق ، قد تمركزوا في ثلاثة أحياء من المدينة، هي محلة الحويزة ومحلة الحضر وبعض من محلة البغادّة ، أما المسلمون السنّة، بصرف النظر عن العرق، فقد تمركزوا في محلة النجادة .

ويضيف “بعد بدء توسع المدينة نشأ حي جديد هو الإسماعيلية وسكانه مسلمون من جميع المذاهب الإسلامية، فهو لم يخضع للفصل المذهبي الطوعي الذي صبغ المحلات الأربع الأخرى”.

ويتابع “لكي تكتمل صورة سكان سوق الشيوخ، نعبر الفرات الى الجانب الأيسر من المدينة الذي اعتدنا على تسميته بـ(صوب الصبّة)، يعني ضفة الصابئة المندائيين، حيث يستوطن هذا الجزء أبناء المدينة من أتباع الديانة الصابئية، فضلاً عن وجود أقلية يهودية هاجرت المدينة “.

إحصائيات التنوع

في إحصائية أعدها باحث في تاريخ المدينة، نجد أنها كانت خليطاً حقيقياً من أجناس متعددة، لكن هذا التنوع كان عامل صهر اجتماعي، ولم يكن يشكل مشكلة، يقول صلاح جبار عوفي “إنَّ مجموع الأسر في المحلات الأربع فقط ( الحويزة ، النجادة ، البغادّة ، الحضر ) ، كانت ( 156 أسرة ) ، وطبعاً كل أسرة متفرعة إلى عدد من البيوتات، وقد توزعت هذه الأسر حسب أصولها إلى 34 أسرة من نجد و 13 أسرة من الإحساء (السعودية) وهي تشكل نسبة 30 %، فيما هناك 28 أسرة من الأحواز (إيران)، وتشكل نسبة 18 % . وهناك ايضاً 81 أسرة عراقية الأصل ، ومن مدن عراقية مختلفة، وهي تشكل نسبة 52 % من السكان الأصليين لهذه المدينة.

ويعلق الدكتور حسين علي، حول هذا التنوع الكبير، بالقول “لم يكن التنوع المذهبي او القومي او العرقي عائقاً أمام تشكيل هذه المدن، كون القيم الاجتماعية والدينية كانت أعلى من هذا الاختلاف، لذا تجد ان نسب هذه المكونات الرئيسية في المدينة قد اختلفت الآن، إلا أن هذا الاختلاف لم يكن نتاج تطهير عرقي او قومي، قدر ما هو تبدل ديموغرافي طبيعي بفعل مرور الزمن. “

ويضيف لـ “الشبكة”: “التنوع في المشارب والثقافات لم يشكل سوى قوة لنسيج سوق الشيوخ، لذا تجد ان التعايش يرتسم بأبهى صوره في هذه المدينة، حيث عبرت البلاد المنعطف الطائفي دون أن تتأثر هذه المدينة بمناخه السيئ، فعلى العكس رأينا تلاحماً اجتماعياً ووعياً متجاوزاً لهذا المناخ”.

ويضيف ايضاً: “بإمكانك ان تسير اليوم في شوارع المدينة، لتشاهد التنوع لا يزال قائماً لا يتهدده شيء، فالأحياء القديمة لا تزال بأسمائها، ولا تزال المساجد للطائفتين مفتوحة أمام المؤمنين، فيما يقف مندي الطائفة المندائية شامخاً ودليلاً على تعايش فريد تشهده هذه البقعة العراقية”.