اقبض من دبش

1٬002

د.كريم شغيدل/

تأسست الدولة العراقية وكوّنت نظاماً إدارياً ومالياً يكاد يكون مثالياً. وحتى سبعينات القرن المنصرم كان الموظف العراقي مثالاً للنزاهة، مؤتمناً على شرف المهنة. فالموظف، مهما كان منصبه، شخص وقور محترم مهذب أنيق ينتمي إلى الطبقة الوسطى، لديه تقاليد مهنية واجتماعية تحول دون تهاونه أو مد يده للمال العام. وكان المجتمع ينبذ دناءة النفس، حتى أن ظاهرة الرشوة لم تكن معروفة إلا عند بعض الشرطة من ضعاف النفوس، وكان الشرطي الذي يعرف بذلك يلقب بكلمة (واشر) كناية عن الدرهم الذي كان يُدسّ له من ذوي الحاجة. ولكن بعد تولي المقبور صدام حسين سُدّة الحكم، برزت طبقة جديدة من الأغنياء والمسؤولين من أقاربه وإخوانه وأبناء عمومته ومن ثم أولاده، وما أبداه هو وأسرته من ترف، ثم اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وما صاحبها من انهيار بطيء للقيم، فبدأت مساومة الجندي على حياته من قبَل بعض الضباط. ثم انتقلت العدوى إلى بعض الموظفين، وما أن حلّت سنوات الحصار الاقتصادي حتى أصبحت الرشوة أمراً مشروعاً بحجة أن الراتب لا يسدّ الرمق، وهذه حقيقة، فالرواتب مقارنة بحالة التضخم وتناقص قيمة الدينار كانت شيئاً مضحكاً مبكياً، فكان المواطن متواطئاً ومتضامناً مع الموظف. لكن الحالة استفحلت وأصبحت ظاهرة ربما بعلم النظام لإفساد النفوس. بالمناسبة كنت أنا شخصياً في العام 1988 ضحية لمدير ثانوية مرتشٍ، ويعلم الله ما الذي فعله بعدي في أيام الحصار؟!

أما اليوم فقد بلغ السيل الزّبى كما يقال، وأصبح الفساد حالة عامة تواجه المواطن من عامل النظافة إلى أعلى المناصب، انتشار سرطاني مخيف، بحيث أصبح العراق على رأس القوائم العالمية للبلدان الأكثر فساداً، وراح الفاسدون يتفنّنون بالتحايل على القوانين مثلما يبتكرون الحيل الشرعية في شرعنة الفساد، وصار الأنموذج النزيه شاذاً عن القاعدة، وخارج نطاق المقبولية وجباناً ومعقّداً ولا ينفع ولا يعرف كيف يستغل الفرصة، وصرنا نستذكر نماذج افتقدناها منذ زمن طويل كالمرحوم عبد الكريم قاسم الذي استشهد فلم يجدوا في جيبه سوى بضعة دنانير، ولم يمنح أخاه أو أخته قطعة أرض إلا بحسب الأصول أسوة ببقية المواطنين، بل تبرع ببيته في قضاء الصويرة ليكون مدرسة للبنات، وهو لا يملك سواه، ونستذكر المرحوم نوري السعيد ومواقفه الهزلية مع وزير المالية اليهودي ساسون حسقيل الذي اشتق العراقيون من اسمه كناية دالة على الشخص الذي يبالغ في الحرص (لا تحسقلها)، ونستذكر حكاية المحاسب دبش اليهودي في ميناء البصرة الذي كان يسلّم الرواتب في موعدها، وعندما أبدل بشخص آخر بدأت الرواتب تتأخر على العاملين فراحوا يرددون عبارة (اقبض من دبش) حتى أصبحت مثلاً سائراً، يبدو أن زمن قاسم والسعيد وحسقيل ودبش وأفندية أيام زمان، الذين تأبى نفوسهم مد أيديهم للمال الحرام، قد ولّى ونحن الآن في زمن (رجّال اللي يعبّي بالسكلّة رقّي).