الأهوار.. لوحة يطرّزها الجمال ويحتفي بها التاريخ

إياد عطية الخالدي - تصوير:صفاء علوان

1٬166

يشق “بلم كيان” طريقه في عمق الهور وسط الحشائش والقصب النامي، بينما تشكل اسراب الطيور لوحة راقصة في السماء ويداعب النسيم زورها ليمنحهم احساساً بالانتعاش على مدى 2400 كيلو متر مربع من المسطحات المائية الأكثر ثراءً وتنوعاً بنظامها الأحيائي، حيث تعد موطنا لـ 80 نوعا من الطيور النادرة ونقطة استراحة لآلاف الطيور المهاجرة بين سيبيريا وآسيا وأفريقيا وهي اقل من ربع المساحة الكلية للأهوار قبل تجفيفها.

لم يتخيل الأهواري حسين الأسدي انه بعد عقد من الجفاف يمكن ان يعود القصب والحشائش الطبيعية التي تشكل لب الأهوار وتمنحها طبيعتها المتفردة، لكن الله حفظ البذور التي ظلت حية وقادرة على قهر الطغاة لتبعث من جديد ويعود القصب يتمايل مع حركة الهواء وجريان الماء.

ففي العام 1992 قطع نظام صدام حسين شريان الحياة “الماء” عن الأهوار فتسبب بموتها وتحويلها الى أرض جرداء في جريمة لم تتوان منظمات الأمم المتحدة عن وصفها بعملية ابادة جماعية، الأمر الذي ادى الى نزوح اغلب سكانها البالغ عديدهم نحو 750 ألف نسمة.

ويؤكد الأسدي ان سكان الأهوار تناقصوا بشكل كبير وانخفض عددهم الآن الى نحو 150 الف نسمة.

عمل مهندسو النظام على انشاء عدة قنوات مائية وسدود تكفي لمنع تدفق المياه بشكلها الانسيابي الى الأهوار وتحويلها الى شط العرب، وعلى ما يبدو فإن المشروع خطط بعقلية هندسية وليست عشوائية.

بعد عام 2003 سارع سكان الأهوار الى كسر السدود وتحطيم القنوات التي عملها النظام وغمرت المياه نحو خمسة آلاف كيلو متر مربع، وسط اجواء من التفاؤل بتحويل الأهوار الى جنة عدن، فقد جرى الحديث على نطاق واسع عن خطة لإنعاش الأهوار ورصدت الحكومة مبالغ كبيرة لها، فيما توافدت المنظمات المعنية بالطبيعة والمتعاطفة مع قضية الأهوار الى المنطقة من جديد،غير ان الآمال كانت اكبر من الواقع.

وعلى مايبدو فإن قوى كثيرة تريد ان تسلب العراقيين هبة الله الكبيرة، ففي الداخل حيث الفساد وسوء الإدارة، تعاضدا مع الخارج، اذ عملت تركيا وسوريا وايران على تحويل جزء كبير من حصة العراق المائية الى سدود وابتلع سد أليسو لوحده الكثير من المياه التي كان من المؤمل ان تغمر الأهوار، فضلا عن انخفاض تساقط الأمطار.

ويمثل شح المياه ابرز التهديدات لوجود الأهوار التي تتمتع بتراث إنساني وثقافي عريق، حيث تسكنها احدى أقدم السلالات البشرية على وجه الأرض، وعليها بزغت الحضارة السومرية قبل خمسة آلاف عام قبل الميلاد، وحيث مازالت آثار مملكة اريدو تنتشر على مساحات واسعة بمحاذاتها.

يقول جاسم الاسدي، رئيس منظمة طبيعة العراق، والتي تعد من انشط المنظمات العاملة في الأهوار، إن وزارة الموارد المائية ومن خلال تشكيلاتها المتمثله بمركز إنعاش الأهوار والأراضي الرطبة العراقية قامت بتحسين النظام الهيدروليكي ومعالجة الشحة لمجموعة من الأنهار والقنوات المغذية للأهوار الوسطى ضمن منطقة الجبايش وبموجب خطة مركز إنعاش الأهوار لعام 2018 والمتضمنة تطهير 14 نهراً وتأهيل المشهد الطبيعي. وأشار الى ان العمل ابتدأ منذ 14 نيسان الجاري بنهر الغميجة ثم تلاه نهر الساجية.

وقبل ان نسأله يشرح (كيان) تاريخ سفن حديدية قديمة غطس نصفها بمياه الهور ظلت تقاوم الزمن، اذ تعود الى سبعينات القرن الفائت ويبلغ طولها نحو 20 متراً ومصنعة بالكامل من الحديد، وبحسب كيان فانها تعود الى السيد حطاب وكانت مخصصة لنقل الجاموس، لكنها ايضا تنقل السكان من المجر الى الجبايش حيث تبلغ حمولتها خمسة الاف طن تقريبا، تساعد على حملها مياه الهور العميقة.

وعلى الرغم من ان أغلب سكان الاهوار هجروا مهنة الصيد التي كانت تشكل المهنة الاولى لهم بعد تربية الجاموس والزراعة، حيث تمد منطقة الأهوار العراق بنحو 75 بالمائة من احتياجاته من الثروة السمكية، الا ان تقلص فرص العمل والوظائف في الجيش والشرطة دفع العديد من الشباب الى العودة الى الهور وممارسة مهنة اجدادهم التقليدية التي قد تساعدهم على توفير متطلباتهم البسيطة.

ويأمل الاسدي أن تساعد الحكومة المحلية في الناصرية المستثمرين في الأهوار على البدء بمشاريع سياحية ستعود على سكان المنطقة التواقين لرؤية الأهوار وقد تحولت الى مركز استقطاب للسياح، فمنذ انضمامها الى لائحة التراث العالمي وعشرات الشباب هنا ترنو عيونهم الى حصد ثمار هذا الحدث المهم في تأريخ المنطقة والعالم.

انضمام الأهوار يعني أنها باتت جزءا من التراث العالمي، وان العالم سيدافع عن وجودها وسيقف ضد أي شخص او مجموعة تحاول تجفيفها، ولهذا يأمل العراقيون ان يقوم العالم بواجبه تجاه المخاطر التي تواجه الأهوار، لاسيما مسألة حمايتها من الجفاف.

يؤكد جاسم الأسدي ان مساحة الأهوار في اعلى مستوى غمر في مواسم الأمطار الغزيرة في منتصف السبعينات بلغت نحو 20 كم ولكن المعدل تناقص تدريجيا ويمكن القول ان المعدل الأعلى للغمر هو 9 آلاف كيلو متر ومع هذا ومنذ سقوط نظام صدام لم يتجاوز معدل الغمر في اقصى حالاته نحو 9 آلاف كم مربع.

يبحر (كيان) ببلمه لكنه مثلنا مشدود البال الى موكب من السيارات الفارهة ذوات محركات الدفع الرباعي، انه موكب للسفير الفرنسي في بغداد برونو أوبير الذي تظهر بلاده اهتماماً غير عادي بالأهوار. وبحسب جمع من شباب الأهوار فإن البعثات الأجنبية لاستكشاف الاهوار بعد سقوط النظام لم تتوقف، وعملت بالفعل على دعم المنظمات المدافعة عن طبيعة الأهوار وعلى دعم الجهود العراقية في انعاش الأهوار والسعي الى تنميتها.

ويؤكد جاسم الأسدي ايضا، الذي رافق السفير الفرنسي في جولته بالأهوار، ان الاهتمام الفرنسي بهذه المنطقة له وجوه مختلفة، ولايرتبط بالضرورة كون باريس مقراً لمنظمة اليونسكو، انما لان فرنسا تضم ايضاً مسطحات مائية في مرسيليا ولكن بالطبع لايمكن مقارنتها بالأهوار، بيد انه اشار الى اهتمام جامعات عالمية مثل جامعة روما وجامعة مانجستير وجامعات اميركية بآثار مدينة اريدو التي يتوازى الاهتمام بها مع الاهتمام بالفاتكيان لدى الاوروبيين.
الرحلة في عمق الأهوار الوسطى هي فرصة لاستكشاف سحر الطبيعة التي تمتزج مع جمال خلاب ترسمه صور متلاحقة على مسافات طويلة حيث تلتقي اهوار الجبايش بأهوار الحمّار والحويزة، وسط هذا السحر الدافق وعلى جزيرة صغيرة تعيش الأهوارية (ارداحة – 70 سنة) في عزلة تامة بين جاموسها، رافضة حياة ابنائها الجديدة التي تريد الاقتراب من المدنية.

تعتني ارداحة بجواميسها ومجموعة من الحيوانات والطيور الداجنة ويرسو مشحوف قصير ملتصقاً بحافات الهور و”جبيشتها” التي بنت عليها كوخاً من القصب يؤويها بعد ساعات من العمل الدؤوب يبدأ باكراً بحلب الجواميس وينتهي ليلاً بتقديم الأعلاف التي يشكل القصب مادتها الأساسية، وكأية اهوارية فإنها تحفظ المنطقة وتعرفها رغم مساحتها الشاسعة دون ان تأبه بأخطار نتخيلها عن امرأة تعيش على جزيرتها الصغيرة المحاطة بالمياه حياة اعتادت عليها منذ عقود طويلة بعيداً عن البشر.

مازالت (ارداحة) تتذكر بأسى بالغ عمليات تجفيف الأهوار وحرق القصب الذي ادى الى حدوث نزوح جماعي لساكني الأهوار وجواميسهم الى ايران عبر الأهوار الشرقية او الى المدن العراقية حول العاصمة بغداد والمحافظات الاخرى مادفع العديد منهم الى التخلي عن حيواناتهم.

ويؤكد الباحث الدكتور جبار الساعدي، المتخصص بجغرافيا حيوان الجاموس، على ان تاثير عمليات تجفيف الأهوار ألقت بتأثيرها الكبير على جغرافيا الجاموس في العراق.

من جهتها، اشارت منظمة الفاو الى تراجع خطير في اعداد الجاموس قدرته بـ(65 ألف رأس عام 1998) بعد ان كانت (141 ألف رأس عام 990 ).
وقد تمكن الجاموس في العراق، والذي يتمتع بمواصفات وقابليات مدهشة، من التكيف والأقلمة على الظروف البيئية القاسية في الاهوارنتيجة كفاءته العالية في استخدام النباتات المائية كالقصب والبردي والأعلاف المتوفرة في مناطق تواجده، ما ساهم في حمايته من خطر الانقراض.

ولعب مربو الجاموس في العراق دوراً مميزاً في ديمومة حياة هذا الحيوان والمحافظة عليه من الانقراض لتمرسهم وخبرتهم العالية في ادارة وتربية الجاموس التي لايضاهيهم فيها احد.

ولفت الدكتور جبار الساعدي الى ان تجفيف الأهوار كان كارثة كبرى، فبعد التجفيف ترك مربو الجاموس مهنتهم وباعوا جواميسهم وتحولوا الى المدن.

في الطريق الى الأهوار مشاهد لاتليق بـ”عروس الجنوب ” ذلك الحضن الذي صار ملاذاً آمناً للهاربين من جحيم وظلم وجبروت الطاغية، مثلماً تحول الى موقع متقدم لمواجهة الدكتاتورية، في الطريق تستقبلك (الفهود)، كان هذا الاسم لوحدة يؤرق طاغية البعث، فهنا كان المنفيون يجدون عوائل المدينة الغافية بأحضان الهور ومناضليها في استقبالهم، وهنا يحصلون على الزاد والزوادة في مسيرة الكفاح، حيث يتقاسم اهل الهور ماملكوا مع المقاتلين ضد الدكتاتورية، لهذا لاغرابة ان تحتفظ سيرة الكفاح العراقي بأسماء نذرت نفسها رخيصة للوطن، ومن الرائع ان نرى نصباً للشهداء الذي قدموا ارواحاهم قرباناً لحرية الوطن.

لكن الفهود التي تتجمع بيوتاتها في الجانب الأيمن تحتمي من المياه من خلال سد كبير أقيم منذ مطلع القرن الفائت حينما كانت المياه تلتصق ببيوت اهالي الناحية، مدينة لاتوازي اهميتها ولاموقعها ولاحتى تاريخها، فقد هجرها الماء وجفت الأرض، وليس بوسع احد ان يصدق ان الفهود مدينة أهوار، ولاحتى مدينة عصرية فالطريق الرابط بين الهور والناصرية والذي يمر بمدن الأهوار الشهيرة الثلاث الفهود والحمّار والجبايش وان كان معبّداً لكنه طريق سيئ ويمكن لجهود مخلصة ان تجعله مناسبا لمدن التضحيات ومدن الجمال والتاريخ الموغل، كما قصبها في أعماق التاريخ حيث اقيمت هنا اقدم وأهم حضارات العالم.

رفيقنا في الرحلة هو استاذ الفيزياء حيدر الشاهين والفنانة التشكيلية المهتمة بطبيعة الأهوار ريا عبد الرضا اللذين تعود جذورهما الى منطقة الفهود احد اكبر ثلاثة تجمعات سكانية محاذية للأهوار.

يقول كل من ريا والشاهين أن اسوأ شيء يشعرك بالأسى هو الطريق مابين مركز الناصرية مرورا بالفهود والحمّار والجبايش، وهنا لاتستطيع ان تنتزع عراقيتك وتكون محايداً كي ترسم الأهوار بفرشاة فنان حالم، وتحبس مشاعر الألم وصرخة السؤال. لماذا عجز المسؤولون عن تعبيد طريق يليق بمنطقة هي مثار اهتمام العالم كله؟! ومع ان هناك تغييراً ايجابيا في مستوى المعيشة، لكن الفقر مازال يخيم بظلاله على حياة سكان يعيشون في اجمل بقعة وهبها الله الى الناس في العالم، ويبدو ان مغنية الحي لاتطرب ولم تداعب فتنتها “الأهوار” خيال المسؤولين عن إنعاشها.

ويشكو الناشط رعد الأسدي على صفحته في الفيسبوك كثرة الحوادث التي تقع على طريق ناصرية ــ جبايش التي إما أن يكون ضحيتها سياحاً لا يعرفون جغرافيا المنطقة، او حيوانات تعود لساكني الأهوار، لاسيما في الليل حيث يسود الظلام وتنعدم الرؤيا وتغيب الإشارات المرورية.

وتقدر المنظمات المهتمة بالأهوار أن الحكومة العراقية خصصت ملايين الدولارات لإنعاش الأهوار وتنميتها، لكن الأموال ابتلعها الفساد وسوء التخطيط، وكان بالإمكان ان تعتمد الحكومة العراقية وحتى الحكومات المحلية لمدن الأهوار على صندوق لتنمية الأهوار يعمل على تطوير البنية التحتية لها، تبدأ بطرق معبدة وايصال الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء بشكل جيد وبتزيينها من الجوانب بما يلائم طبيعة الأهوار، وبناء محطات الماء الصافي وفندق صغير او مجموعة بيوت سياحية بتكلفة تستطيع تحملها ميزانية الدولة او مدن الأهوار ذاتها.

ويمكن لشبكة الاعلام العراقي، بحكم مهامها الوطنية، ان تشجع على اقامة مهرجانات فنية في الأهوار، ومسابقات لافضل الاعمال الفنية والتلفزيونية المنتجة عن الأهوار، كما يمكنها مشاركة اتحادات رياضية بتشجيع الألعاب والمسابقات المائية في الأهوار كالتجذيف وسباق الزوارق والدعوة الى اطلاق (عام الأهوار) بحيث تدفع الحكومة العراقية ومختلف الجهات العراقية على اقامة مشاريع في الأهوار والسعي الى الدفع بالناصرية لتكون عاصمة السياحة العربية. ان الملف الإعلامي يعد اليوم ملفاً مهماً بالنسبة للأهوار، وسيظل كذلك، كما يمكن لـ”الشبكة” ان تدفع الحكومة الى اقامة المؤتمرات التي يحتضنها العراق في تلك المنطقة، وايضا دفعها لتغيير جغرافيا بعض المشاريع الكبرى الى تلك المنطقة من خلال استضافة بطولات عربية وآسيوية تشكل الطبيعة احد جوانبها الجميلة.

كان النظام السابق قد أنشأ مرافق سياحية تعرضت للتخريب بعد العام 2003 في مدينة ساوة القريبة من الحدود بين السعودية والعراق، وبالرغم من الفارق الكبير بين اهمية المنطقتين لكن هذا يعني ان الحكومة مغيبة تماما عن واقع الأهوار وتنتظر رحمة من السماء لتبني لها الأهوار.

يعتقد المذيع في تلفزيون العراقية (رافد)، والذي أعد برامج تهدف الى تسليط الضوء على اجمل بقعة في العراق، ان الرحلات التي تنظم للسياح الأجانب في الأهوار قد تأتي بنتائج عكسية، فصورة الأهوار الساحرة تختفي تماماً عندما يجد السياح انفسهم في وضع بائس وهم يبحثون عن مكان ملائم لتمضية ايامهم في الهور وعن مياه نظيفة يستحمون بها وعن خدمات بسيطة ومرافق صحية تسلب منهم متعة السياحة في الأهوار، وتتحول دهشتهم بطبيعة الهور الى معاناة في الحصول على خدمات يحتاجها الانسان اينما يكون.

يريد رافد ان تبقى الأهوار حاضرة في خيال السياح حتى يتم تطويرها وتجهيزها بالخدمات الأساسية التي يحتاجها السياح، كي لاينفروا منها وينقلوا عنها صورة سيئة، فليس من العدل ان تكون جنّة عدن بلا ماء ولا كهرباء، فتغدو مثل قلادة علقت على صدر فتاة بثياب بالية.