سوق الصفّارين.. في طريقه إلى الاندثار
عبد الجبار العتابي – تصوير:صباح الامارة/
لم يعد لها حضورها المميز في المشهد الحياتي اليومي، وما عاد يضرب فيها ذلك المثل البغدادي الظريف الذي اتخذ من ضوضائها فكرته، غابت تماما واصبح المكان اكثر هدوءا ووداعة، على عكس ما كان عليه حين كانت أصوات المطارق (تجلب التائه) كما يقال، فيما شهرتها طبقت الآفاق، حتى الذي يزور بغداد ولم يزرها تعد زيارته ناقصة، كونها واحدة من أهم المعالم التراثية الشعبية في بغداد، خاصة ان لها في الذاكرة الجمعية لأهل بغداد صوتا وصورة
الصوت له رنينه الجميل الخاص الذي يحسه السامعون وكأنه عزف على أوتار من حرير، فيما الصورة تتجسد ببهاء في اللون الأصفر الذي يلمع بتوهج يغري العيون، لكنها الآن غير ذلك، فقد تهاوت بهاءاتها وأصبح النظر اليها يوجع القلب، ولسان الحال يقول: هنا.. كانت صناعات مزدهرة لكنما الإهمال آذاها.
الخطوات اليها لا تمشى على بوصلة الأصوات التي تصدر من دكاكينها، وحين تصلها حسب الخارطة التي في رأسك عنها، لن تجدها، تعتقد اولاً انك تهت في الزحام او خانك الطريق، ربما تنظر ولا ترى أية دلالات عليها إلا إن سألت، انا دخلت اليها من جهة شارع النهر، حيث لا دلالة دالة، لم أجد الطريق الضيقة سالكة، بل مغطاة بزحام الأقمشة على طرفي الشارع الضيق والتي خرجت الى الأرصفة من الدكاكين الكثيرة التي غادرها اصحابها الصفارون، في البدء.. ثمة درب قصير تغيرت ملامحه كثيرا، لا علاقة له بالماضي الذي لا تسمع فيه إلا أصوات المطارق، ليس هنالك من ضوضاء ولا زحام للناس بل انها اكثر هدوءا من اسواق يتصايح الباعة فيها، وان كانت هناك ثلاثة دكاكين تعلن تمسكها بحرفة أجدادهم وآبائهم ويحاولون كسب رزقهم منها، مع استغرابي لمشهد رجل مسنّ يضع أمامه قدراً نحاسياً صغيراً على سندان ويطرق حوافه، اعترتني الدهشة لكنني أيقنت أنه الحنين الى الماضي ليس الا، فيما الدرب الآخر منها هو الآخر استسلم العديد من دكاكينه لبضائع أخرى اكثرها الأقمشة والمفروشات مع احتفاظ البعض بالأواني النحاسية المختلفة لديهم في صورة صمود، أما الجزء الثالث من السوق فهو الأقرب الى شارع الرشيد ويبدو انه يستمد قوته من الشارع وان غاب الكثير من مظاهر الصفارين عنه, والأهم فيها الطرق على النحاس. ومن الظريف ان يذكر لي احدهم ان الخَلِيل بن احمد الفراهيدي (718- 786م) واضع علم العروض، أسس علمه هذا بعد زيارته لهذه السوق وقد لفت انتباهه ان لكل ضربة مطرقة ايقاعا معينا، وقد اشار لي المتحدث ان النقر على (الدلّة) الصغيرة هو غيره على القدر الكبير او (الطشت) الواسع المفتوح، كما أن الضرب على (المشربة) او (المسخنة) ضيقة الفوهة يختلف عن الأواني النحاسية الاخرى.
سوق تراثية
تحولت السوق التي تعد (إحدى أغرب وأجمل أسواق بغداد وأكثرها أناقة من الداخل)، الى سوق تراثية بسيطة للعراقيين فقط، بعد ان غاب عنها السائحون الأجانب، الدكاكين ما زالت تحتفظ ببنائها التراثي المميز ولكنها في بعض الأوقات تكون موحشة، فيما تكون في احيان كثيرة مجرد ممر من والى شارع الرشيد، وهي التي كانت لا يستغني عنها اهل بغداد في شراء المواد المنزلية المصنوعة من مادة الصفر المعدنية، قبل ان تصدر وزارة الصحة عام 1953 قرارها بعدم استعمال الأواني النحاسية كونها تتفاعل مع أي مادة أخرى وتسبب التسمم، فتحول إقبال الناس باتجاه الأواني المصنوعة من الألمنيوم والفافون، وانتقلت هذه المهنة إلى صنع التحفيات، وتوالت انتكاسات السوق التي كانت اشدها اثناء الحرب العراقية الإيرانية، حين تم سحب جميع المعادن لصالح الصناعة الحربية، وبعدها صدر قرار بمنع دعم الدولة للحرفيين، وبشكل اضطر التجار إلى هجر حرفهم وبيع محالهم لصالح تجار الأقمشة، ويؤكد البعض من الصفارين (الآن لا تجد سوى 20 في المائة من الصفارين فقط في السوق)، وتباع فيها اليوم الصحون والأواني المنزلية وأباريق الشاي والملاعق وإطارات الصور والفوانيس النحاسية والحلي التي توضع على الجدران، كما توجد السيوف والحراب والخناجر، إلا أنها للزينة لا للقتال كما كانت أيام العباسيين في بغداد.
وتطلق عبارة الصفّارين (بتشديد الفاء) أو (الصفافير) على أصحاب مهنة بيع وصناعة النحاس، هناك حالة تميز الصفارين عن سواهم من اصحاب الحرف في بغداد، وهي (أن لا ينفرد أحدهم بحانوته خارج السوق) وهناك تقاليد صارمة للصفارين في أيام ازدهارها البعيدة وهي إقفال دكاكينهم كل يوم جمعة وفي كل يوم زيارة للعتبات المقدسة وعند وفاة أي عامل من عمال السوق تضامناً معه، ولا تفتح في يوم الإغلاق إلا دكاكين الرؤساء بعد إتمام المراسم.
النحاس الأصفر
بعض الصفارين او اصحاب الدكاكين الذين سألتهم عن ماضي السوق وحاضرها، وعن رزقهم، ردوا اولا بعبارة (الحمد لله) ثم اشاروا الى ان بداية خراب السوق بدأ مع الحرب العراقية الايرانية (1980 – 1988)، حينما بدأ عدد السائحين يتناقص، ومن ثم اضطر العديد من الصفارين الى بيع محالهم لأن أولادهم ذهبوا الى الحرب وما عاد في استطاعتهم الاستمرار. كما أوضحوا أن الحصار الاقتصادي في التسعينات قضى على الكثير من ملامح السوق، بل ان البعض يصر على ان يظل دكانه مفتوحا يوميا حتى وان لم يبع شيئا. ويؤكد ان (الرزق موجود)، فهناك الكثير من العراقيين يشترون المصنوعات النحاسية كهدايا او لتزيين البيوت، لكن أصحاب الدكاكين أكدوا ان ما لديهم من بضاعة كلها قديمة وانهم لم يمارسوا التصنيع، فيما اكد البعض ان بعض البضائع يستوردونها من الهند وهذا اخطر ما تواجهه السوق التي هي مصدر المنتوجات التي تبيعها وهي التي كانت في الكثير من مراحلها كثيرة الضجيج بسبب اصوات المطارق الكبيرة على الأواني النحاسية، والتي تكاد تصم الآذان، مع تأكيدات ان الصناع الهنود يستخدمون النحاس الأصفر وهو أوفر وارخص، فيما الصناع العراقيون يستعملون النحاس الأحمر الذي هو أجود وأندر كما انه يعطي شكلاً رائعاً عند النقش عليه.
محلة باب الآغا
تقع سوق الصفارين على الجانب الأيمن لشارع الرشيد، فيما امتدادها الغربي يكون على الطرف الشمالي من شارع النهر، على مسافة قريبة من المدرسة المستنصرية التي تفصلها عن نهر دجلة، وهي عبارة عن زقاق ضيق بامتداد محدود تمتد بطول خمسمئة متر تقريبا وبعرض نحو ثلاثة أمتار، وفي بعض الأماكن اكبر بقليل، اطلالته على شارع الرشيد بباب مقوس ارتفاعه ثلاثة أمتار وعرضه متران وبناء تراثي من الطابوق تعلوه كلمة (سوق الصفارين)، الشارع الذي تمثله سوق الصفارين متقوس وليس باستقامة واحدة، دكاكينه من الطراز القديم اغلبها صغير ومحتشد بالبضائع المختلفة التي عمادها مادة (الصفر) وايقاع الحياة فيها الطرق على الأواني التي تصنع، فيما كانت تقف في اوله العربات الصغيرة التي تجرها الحمير والحمّالون.
وحسب التوصيف القديم تبدأ السوق من محلة باب الآغا وتمتد عرضيا ايضا باتجاه الغرب ملتقية بسوق البزازين، وتعد هذه السوق جزءا من محلة سوق الصفافير أو (الصفارين), ويؤكد الدكتور عماد عبد السلام رؤوف عنها (ومما يتصل بسوق باب الآغا الجديد من جهة، ودرب البزازين من جهة اخرى، سوق الصفافير، وكانت هذه السوق في العصر العباسي الاخير محلة قائمة برأسها تسمى درب المسعودة او المسعود، وصفت بأنها “درب نافذ به دروب غير نافذة، ينفذ الى درب دينار الصغير”، ودرب دينار الصغير هو نفسه سوق البزازين الحالي، وقد اشير الى الصفافير في هذه المحلة اول مرة سنة 1176 هـ / 1762 م.
سوق الحرب
ويمكن هنا استذكار (خان الصفارين) في مدخل السوق وتباع فيه انواع الصفر، و(خان الباشا الصغير) في السوق عند مدخل الطريق المؤدي الى شارع السموأل، هناك من يرى ان سوق الصفافير تعد واحدة من أقدم أسواق بغداد، يعود تاريخها الى العصر العباسي الأول، انها عُرفت في البداية ببيع الأسلحة ولوازم الحرب حتى انها كانت تسمى بـ “سوق الحرب” وتدرّجت في التسميات حتى صارت تعرف بـ “سوق الصفافير”، وتعني سوق بيع النحاس، لكن هناك من يقول ان تاريخها بعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي؛ اي مدة الخلافة العباسية وبالتحديد إلى عهد الخليفة المستنصر بالله (1226-1242)، الذي أمر بإنشاء أسواق عدة متخصصة كأسواق الوراقين والبزازين والعطارين وسوق الصفارين، وكان الغرض من إنشائها هو توفير المتطلبات اللازمة لطلبة وأساتذة المدارس في ذلك الوقت، وكان سوق الصفافير يمدهم بما يحتاجون من فوانيس وقناديل وغيرها من الأواني والقدور، ويذكر الذين تعرضوا لتاريخ بغداد أن السوق كانت مكاناً مناسباً لتعويد الخيول العسكرية على ضجيج المعارك، إذ كانت تمرر في السوق وسط ضجيج طرق المعادن لكي لا تفر في أثناء الحروب عند سماعها صليل السيوف.
نشأة السوق
ويذكر باحثون في التراث العراقي أن سوق الصفافير نشأت بالتزامن مع بناء المدرسة المستنصرية عام 631 هجرية مع أسواق أخرى، ومنها سوق الوراقين الذي يسمى حاليا بسوق السراي، وسوق البزازين وسوق العطارين (الشورجة)، ويشيرون الى روايات تشير إلى ان السوق أنشئت كورشة تابعة للمدرسة المستنصرية لسد احتياجات مطابخها من معدات ومستلزمات من أوانٍ وقدور كبيرة وصغيرة وصحون وملاعق واحتياجات المطابخ، وهناك من يقول ان السوق سميت بـ (خان الجاقات) وهذه الكلمة تركية الاصل تعني تاج النساء المرصع بالألماس.
التسمية الشعبية
والصفافير تسمية شعبية اكتسبت السوق اسمها من “الصفرة” لون مادة النحاس المستخدمة في صناعة المشغولات اليدوية للعاملين فيه، وقد اوقف المجمع العلمي العراقي التسمية ليرد الاسم الى صيغته الصحيحة (الصفارين)، وحسب القاموس (الصفر من جواهر الأرض، يقال: إنه النحاس. وقد يقال: الصفر. وقال الأصمعي: النحاس: الطبيعة والأصل، والنحاس هو الصفر الذي تعمل منه الآنية، فقال: “الصُّفر”، بضم الصاد. قال أبو عبيد مثله، إلا أنه قال: الصِّفر، بكسر الصاد، وهذا التخصص الذي عليه السوق جعلها تحتل مكانة اثيرة في نفوس البغداديين منذ زمن بعيد فهي التي تضمن احتياجاتهم من الأدوات المنزلية المتمثلة بالأواني النحاسية والقدور والطشوت والأباريق والصحون وقدور الملابس والمشارب والقروانات والصفرين ام العراوي والكلن.
واقع مؤسف
واقعها.. ليس فيه ما يسر، المهنة في طريقها للاندثار بعد ان رحل عن الدنيا صناعها الأصيلون فيما ابناؤهم ما عادت تجذبهم، واذ كانت في السابق جزءا من مفردات السياحة العراقية يتسابق عليها السائحون والزائرون لاقتناء التحف، فهي الآن خلت منهم، ويمكن القول انها بحاجة الى اهتمام ورعاية اكثر للحفاظ عليها لتكون علامة تراثية في بغداد لها خصوصيتها وتميزها.