تأملات لطيفة في الماضي والحاضر.. العتبات المقدسة في النجف والكوفة وكربلاء
ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
قلت للسائق العراقي الرقيق محمود جميل وأنا أتهيأ لزيارة العتبات المقدسة: هل الطريق اليها ممهد؟.. فأجاب: “زين”.. كلمة “زين” نسمعها في العراق بمعدل مرة كل دقيقة ومعناها بلغتنا المصرية الدارجة “كويس”.. واستخرت الله وقلت له: لنذهب اولاً الى كربلاء، ثم الى النجف والكوفة، ولنزر في الطريق انقاض بابل..
وكانت الساعة الثامنة صباحا حينما بدأت رحلتنا، وشمس العراق توشك ان تشتد حرارتها لتلهب جو بغداد. وتركنا “دجلة” وراءنا، وانحرفنا الى طريق طويل ممهد، تحف به من الجانبين مساحات شاسعة من الأرض الخصبة دون ان يكون فيها زرع، وتساءلنا كيف يترك اهل العراق هذه الثروة الضخمة؟
منذ خمس سنوات حينما كان المرحوم النقراشي باشا رئيساً للوزارة المصرية، طلب العراق ايفاد الف فلاح مصري لاستغلال جزء من أرض العراق، ولم ينجح المشروع لأن المرحوم النقراشي أصر على ان يحتفظوا بجنسيتهم المصرية، وأصر العراق على منحهم الجنسية العراقية. كان حديث السائق طول الطريق حول ما سماه “الأوقاف الذرية” لا نسبة للقنبلة الذرية كما قد يتبادر الى الذهن، ولكن نسبة الى الذرية، اعني الأولاد.
وخلاصة رأيه في الموضوع ان مصر ألغت الأوقاف، ومصر “اسلام” فلماذا لا يلغيها العراق ايضاً.
والعدو الاول للسيد محمود جميل هو عالم عراقي اسمه “الرصافي”، فقد أفتى بان “الأوقاف الذرية” لا يجوز حلها لأن ذلك مخالف للدين، ويعلق السائق على ذلك بقوله: اننا ننوي ان نتقدم بعريضة الى الملك بعد حفلات التتويج، نقول له فيها: ان مصر ألغت “الأوقاف الذرية”، ومصر بلد اسلامي وقد اعتدنا ان نأخذ عنها كل شيء، واحدة من اثنتين: اما ان مصر “اسلام” او انها خرجت من “الإسلام”.
واستحلفني بالله اذا عدت الى مصر ان اكتب هذا، واثقا انني قادر على إلغاء الأوقاف في العراق، وها أنذا قد وفيت بوعدي، وبقي ان تسمع حكومة العراق وأراني استطردت، فما لهذا قصدت. لقد كنت والسيارة تنهب الطريق نهبا أدمن التفكير في العتبات المقدسة التي أوشك ان اقف في رحابها، لأرى أعلام أخطر الحوادث التي مرت بالدعوة الإسلامية في سنواتها الاولى؟
كنت اتمثل الإمام علي بن ابي طالب مقتولا مسفوك الدم، والفتنة ضاربة اطنابها، والدولة الإسلامية كلها في خطر التفكك..
كنت وأنا أسير على أديم هذه الارض، واقترب شيئاً فشيئاً من كربلاء، اتمثل الإمام الحسين بن علي مقتولا هو الاخر!
أية احداث! أية صور للجحود والنكران والعنف؟ أية كارثة أصابت الإسلام في طراوته فقسمته فرقاً، واشاعت بين اتباعه اسباب الفرقة؟
من كان يدري ماذا كان مصير الدولة الاسلامية الاولى يكون لو لم يقتل الإمام الحسين ولم تقع مأساة الحسين! لا بل لو لم يقتل عثمان، فان دمه هو الذي اثار ما اثار ما تلا من احداث.
من كان يدري ماذا كان مصير الإسلام كله يكون؟.. وتولاني شبه وجوم وأنا اقترب من ضواحي كربلاء، وأحسست عواطفي كلها يستغرقها التفكير في التاريخ القديم.. ولم أكن اشعر بالرجات العنيفة التي كانت الأرض الصلبة والرمال الهشة تصيب بها السيارة من وقت الى آخر.
كانت كربلاء حيث يثوى الحسين، والنجف حيث يثوى الإمام علي بن ابي طالب، والكوفة التي شهدت الفتنة الكبرى هي التي تستولي على قلبي وعقلي وذهب الخاطر بعيداً، تمثلت الكوفة مدينة ضخمة وعاصمة كبرى، وتمثلت علي بن أبي طالب بقامته الفارعة، وشخصيته الجاذبة وبلاغته التي قاربت السحر يقود جيوشه، ويرد خصومه، ويسأل ربه للقوم الهداية.
وكان السيد محمود جميل لا يزال يتحدث عن “الأوقاف الذرية” ولا يزال يحلم بالثراء الذي سيسوقه اليه حلها.. واشرفنا على كربلاء فسكت او لعله لم يسكت ولكني خلته كذلك، فقد اخذ بصري بريق القباب المذهبة والمآذن المنطلقة في السماء، والمباني المتناثرة هنا وهناك.
دخلنا كربلاء، واخذت السيارة تطأ اديمها، واخذت اشفق من وقع عجلاتها، من يدري من كان هنا؟.. من يدري لعل الشوارع الحديثة الممهدة كانت ارض الموقعة او ارض المذبحة؟.. هنا سار علي بن أبي طالب والحسين والحسن واتباعهم وانصارهم.. هنا جرت المؤامرة والخيانة، وزكت الحكمة، وكان الوفاء والفداء، على هذا الثرى امتزجت كل العواطف الانسانية وتفاعلت، الخير منها والشر، الصحيح والكاذب، التقي والفاسق، ليتها تنطق لكي تروي المأساة بلسان لا يكذب، وجنان لا ينافق ولا يصانع، ليتها تنطق؟.. ليت الاصوات التي وعاها الأثر تعود اليوم لكي تروي كلمات البر والفجر التي قيلت، اصوات النخوة والشهامة والخيانة والكذب التي ابترد بها الجو او لفحته السموم؟
وخلعنا نعلينا عند المدفن الذي يثوي فيه الحسين، ووقفنا مشدوهين مبهورين امام المقصورة التي تضم جثمان الرجل المظلوم الشهيد، اية عظمة في البناء والنقش!.. اية قداسة في الذكرى والجثمان؟ اي تاريخ امتزج جلاله بجلال الفن وجلال الايمان؟
وهؤلاء المؤمنون يصلّون ويتلون ويبكون، يصلّون لله، ويتلون آياته، ويبكون الذكرى الأليمة والفاجعة الكبرى، وهذا التراب الذي يسجدون عليه بعض الثرى من الارض التي ظل فيها دم علي والحسين، اي ايمان! أي وفاء! أي حب! أي تقديس!
وحينما خرجت، بعد ان أديت واجب الزيارة، القيت نظرة من يدري لعلها الاخيرة، على هذه القباب الباهرة، وهذه السمات التي لا مثيل لها في بلد من بلاد العالم.
واذ أنا مستغرق في هذه الخواطر، اذا برجل في منتصف العمر يسألني عن الاستاذ محمد العشماوي وزير المعارف السابق، قلت انه بخير، قال: ارجوك أن تبلغه ان خادما من خدام الحسين في كربلاء يقرئه السلام لعله يذكر.
ولم اشأ ان اسأل الرجل عن اسمه، فقد احترمت اسلوبه في ابلاغ سلامه، ولست أدري ما اذا كان الاستاذ العشماوي سيذكره كما أمل ورجا.
وعدنا الى السيارة وسائقها السيد محمود جميل، وبدأنا رحلة جديدة الى النجف، وبدأنا مرة اخرى نسمع حديث “الأوقاف الذرية”.. وكان الاستاذان مصطفى حسنين وسيد بدوي، وكلاهما من المصريين الأكفاء الذين يعملون في العراق ويفخر بهم وطنهم، يروون لي القصص عن تقديس الشيعة لقبري الإمامين علي والحسين، وما تمتلئ به احتفالاتهم من مظاهر الوفاء والألم لمقتلهما.
وكانت السيدة جورية زوج الاستاذ مصطفى حسنين، قد ابدت رغبتها في زيارة العتبات المقدسة، فقيل لها: ان ظهورها بملابسها الأوروبية في كربلاء والنجف والكوفة غير ممكن، فاستعارت من صديقة لها في كربلاء عباءة، ارتدتها فأخفت جسمها كله، واستطاعت بذلك ان ترافقنا في زياراتنا للأماكن المقدسة، ويروي في هذا الصدد ان طبيبا عراقياً شاباً عيّن في كربلاء، وكانت زوجه ترتدي الملابس الاوروبية، وخرجت برفقته في عربة مكشوفة، فما كان من أحد الشيوخ الا ان اوقف العربة، وضرب الزوجة وحذرها من العودة الى هذا التهتك.
وآثر الطبيب العراقي ان يلتمس نقله من كربلاء الى بلد آخر.. وكان له ما أراد وقد استطردت، فلأعد الى النجف، ان معالمها اخذت تبرز من جوف الصحراء ومن فوق ربوة، فحسبنا اننا اصبحنا على بضع دقائق منها، ولكن السيارة اخذت تنهب الارض نهباً اكثر من نصف ساعة حتى دخلنا مشارف المدينة المقدسة، وأول ما يطالعك منها تلك المقبرة الواسعة الحدود التي تكاد تبلغ من المساحة ما يقرب من نصف المدينة.. واجتازت السيارة طرقات المقبرة، وسرنا فترة طويلة بين صفوف لا حصر لها من المقابر الصغيرة والكبيرة.
ان انصار الشيعة من كل مكان، من الهند وباكستان وايران والعراق والشام يفضلون ان يدفنوا موتاهم الى جوار المثوى الذي يرقد فيه الإمام علي بن ابي طالب، والنجف تستقبل في كل يوم لا أقل من عشرة نعوش لمؤمنين يؤثرون جوار الإمام على كل جوار، ان وصاياهم واحدة، هي ان يرقدوا رقدة الابد الى جوار الرجل الذي يمثل عندهم كل معنى من معاني البطولة والايمان والفداء.
وخلعنا نعلينا مرة أخرى امام المقبرة الضخمة الكبرى التي يثوي فيها الإمام، انها أعظم قبابا وأفخم بناء، وأوسع رحاباً من مقبرة الحسين في كربلاء، الجو واحد، التقديس واحد، البكاء واحد، ولكنه هنا في النجف أعظم وأروع.
والعمارة قائمة على قدم وساق، انهم يغيرون بعض الطلاء، ويزيدون بعض التحف، ان المقبرة الكبرى تتلقى في كل عام هبات لا حصر لها من أغنياء الهند وباكستان وايران، هذا يجدد، وذاك يضيف، وثالث يعيد البناء، والمقبرة كلها تزداد مع الزمن ثروة، وعظمة وبهاء.
وليس في الكوفة غير مسجدها إلا أن قيمتها التاريخية عظيمة، وفي المواسم والأعياد الخاصة بالشيعة تحفل المدن الثلاث كربلاء والنجف والكوفة بعشرات الآلاف من الزوار يفدون اليها من اصقاع الارض، ويقضون اياما في طقوس خاصة، يحيون بعضها بالبكاء والعويل واحداث الألم الى حد اسالة الدماء، اشارة الى ما عاناه الإمامان علي والحسين.
وفي النجف مجتهدون لهم تلامذتهم ومريدوهم ومذاهبهم التي يقلدها اهل الشيعة، وهم منقطعون انقطاعا تاما للعلوم الدينية، ولهم مؤلفاتهم التي تكاد تساوي ان لم ترجح مؤلفات اهل السنّة، وباب الاجتهاد عند الشيعة لم يقفل، لذلك يدأب علماؤهم حتى اليوم على التفسير والتخريج والإفتاء في كل ما يعرف من مسائل دون تقيد بما قرره الفقهاء من قبل.
وفي النجف كما قدمت مجتهدون كثيرون لكل منهم رأيه وفتواه التي قد يختلف فيها مع الآخر، ولكل منهم مقلدوه وأتباعه وأنصاره يأخذون عنه في التفاصيل والجزئيات، اما المسائل العامة الرئيسية فلا اختلاف عليها.
انقضت زيارتنا للكوفة والشمس تميل الى المغيب، غرق نصف قرصها وأضحى النصف الاخر طافيا يرسل شعاعاً رقيقاً، سلاسل من ذهب تنتشر على الوادي الخصيب حيث تقوم القباب وترتفع المآذن، وحيث يثوي منذ مئات السنين اقوام انشأوا هنا حضارة، واثاروا حرباً وفتنة، ودعوة للخير، ودعوة للشر.
كانت هذه الخيوط الذهبية الرقيقة تحية الى الراقدين المقدسين، ونظرت اليهم واليها والسيارة تشق طريقها، والقباب وضممت عيني ورحت في شبه اغماءة أفكر..
ان اهل النجف وكربلاء والكوفة وما جاورها من مدن وقرى هم أخلاف الابطال الذين نسجوا خيوط المأساة، وهم يعيشون اليوم أمناء على رفات الضحايا، يذودون عنها ويقدسونها، ويهيلون التراب على رؤوسهم اسفا وحزنا وندما.
أتراه نوعا من التفكير؟ أتراه نوعا من الاحساس بالذنب، هو الذي حمل القوم على تقديس ما يقدسون، وعلى اعتناق ما يعتنقون من طقوس ومذاهب؟ أهو دم علي والحسين واصحابهما قد تمثل جريمة كبرى يقع وزرها على من أثاروا الفتنة وغدروا وحنثوا وكان الأجدر بهم ان يكونوا الأوفياء!
بدأت الفتنة بمقتل عثمان، وتتابعت الحوادث بعد ذلك، وكما بدأت بالدم انتهت بالدم ثم فرقت شيعاً وأحزابا.
جاء الاسلام ليقضي على روح القبائل ويؤلف بين المسلمين وينقذهم من بداوة الجاهلية، ولكن ما أن بدا سبب للفرقة حتى تحركت البداوة والنعرة من جديد، فكانت الفتنة التي شب أوراها، وغذت نارها ثارات القبائل.
أخذ المساء ينشر ظلاله الرقيقة واشرفنا على “الفرات” يجري في سلام، واشجار النخيل تحف به من كل مكان، هو نفسه كان يجري في مثل هذا السلام والفتنة على شاطئيه مستعرة الأوار..
وأخذت الاشجار تحيي الماء في رفق، ونشر الظلام سدوله، ورق النسيم وبرد، وأخذ جو العراق الحلو في لياليه الساحرة ينقلنا شيئاً فشيئاً من ذكريات الماضي الى متع الحاضر.
ولاحت في الأفق أنوار “الحلة” ثم بعد ساعة ونصف الساعة كنا في بغداد بأنوارها وزيناتها وحفلاتها.. وكان علينا أن نذهب الى حفلة استقبال في “أمانة العاصمة” وغيرنا ملابسنا، وأخذ الحديث في الحفلة ينتقل من موضوع الى موضوع، ولكن قلما عرض للعتبات المقدسة التي ظل خيالها في خاطري الليل كله، وستظل ذكراها بكل ما حفلت حية في نفسي العمر كله.
سلام على كربلاء والنجف والكوفة.. سلام على الإمام الثاوي في قبره العظيم وعلى ابنه الشهيد.