جرائم القتل غسلا للعار من الريف الى المدينة
رنيم العامري/
«لا السم الذي تجرعته، ولا آلامه، كان أقسى من كلامهم».. بهذه الكلمات، تنهي فتاة قصيدة الشاعر اليوناني (ذيونيسيوس سولوموس)، (شاربة السم)، حياتها، بعد أن طالها من العار ما لم تطق حمله.
في الريف العراقي والمجتمعات العربية تظهر عادات لها خصوصية العيش في تلك الأماكن، ومن العادات الخبيئة قتل المرأة عند الاشتباه بسلوكها، أو (غسل العار). يبحث الدكتور علي الوردي في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) هذه العادة ويعزو زيادتها في الريف العراقي عن غيره من المناطق الى استفحال ظاهرة سماها بـ (التناشز الاجتماعي)، قائلا بأن هذا اصطلاح لجأ إلى استعماله لتوضيح مايقع في الريف العراقي من تناقض أو تصادم بين القيم البدوية التي حملتها القبائل القادمة اليه من الصحراء، والظروف الواقعية التي تسيطر على تلك القبائل فيه، وهذا أمر تزداد وطأته في موضوع (غسل العار).
وينقل عن الدكتور فاضل الجماني قوله: (إن المرأة غير المتزوجة إذا اكتشفت انها حامل، أخذها بعض أقربائها إلى مكان بعيد عن المخيم، فقتلوها ودفنوها، دون أن يسأل أحد عن السبب. واذا حاول أحد من البدو نشر إشاعة سيئة حول سلوك امرأة، طلبوا منه الدليل. فاذا جاء به، قتلوا المرأة وإلا فهو يجب أن يؤدي غرامة لمحاولته تدنيس شرفها)
ويكتب الوردي إن ظروف الحياة البدوية تساعد المرأة على الحفاظ على عفتها وحسن سمعتها. فالرجل البدوي عفيف في الغالب، وهو لا يحاول اغراء المرأة أو التحرش بها إلا نادراً. والمرأة من الجهة الأخرى تعيش بين أبناء قبيلتها، وهي قلما تحتك بغيرهم. واذا اضطرتها الظروف أحيانا الى الانتقال وحدها الى موضع بعيد، وجدت اينما ذهبت من يحميها ويصونها.
معنى هذا أن المرأة في الصحراء قلما تكون معرضة إلى الاغراء أو الزلق. وتظهر المشكلة برأي الدكتور عندما ينتقل البدو الى الريف العراقي ويأخذون باستغلال المرأة وبارسالها الى الأسواق بائعة أو شارية. فهناك تكون معرضة للاغراء بالسوق، أو في طريقها اليه. وقد انتقلت هذه العادة الى بعض أهل المدن، لاسيما اولئك الذين هم من أصل ريفي، أو لهم اتصال وثيق بأهل الريف.
من المعروف في بعض مناطق الريف العراقي أن الرجل فيها يسرع الى قتل المرأة فوراً لمجرد ريبة تثار حولها، صدقا أو كذبا. فهو لا يميل إلى التحقيق أو التدقيق في أمرها كما يفعل البدو، ولعله يرى المرأة غير جديرة بذلك. فهو يقتلها حالا ليغسل بدمها عاره وعار قبيلته. وهو قد يقطع أحد كفيها فيعلقه على باب بيته، أو باب المضيف، ليبرهن به على أنه رجل “شريف” . أما إذا تقاعس عن قتلها صار موضع الإهانة بين الناس، وقد لا يقدمون له القهوة إذا جلس في مضيف، ولا يردون له التحية.
وكم شرّح الأطباء الشرعيون من جثث النساء اللواتي قتلن من أجل “غسل العار” ، وظهر من التشريح أن بعضهن لم يزلن يحتفظن ببكارتهن. تقرر الدكتورة نوال السعدواي أن تنقذ حياة بنت زارت عيادتها برفقة زوجها الذي لم يقتنع ببراءتها حينما أخبرته الدكتورة أن عروسه تمتلك غشاء بكارة من النوع المطاطي الذي لن يفض مالم تنجب المرأة فيطلقها وتعود البنت إلى اهلها بانتظار الحكم. وبدافع من الانسانية تقرر السعداوي أن تقابل أبا البنت لتشرح له الأمر. ما دفعها لكتابة (المرأة والجنس) حينما اتهم والد البنت الدكتورة وبقية الأطباء بأنهم هم المسؤولون الفعليون عن إخفائهم هذه الحقائق عن الناس.
في فيلم مصري تظهر الممثلة تبكي وتشتكي لصاحبتها أن عريسا تقدم اليها وأنها ليست باكرا، فتجيبها : (يا سلام! ومالو.. متعملي عملية وكل حاجة ترجع زي ما كانت) . ثم أقع بالصدفة على موضوع أن الصين بدأت بإنتاج غشاء بكارة صناعيّاً، وأنّها قطعت رزق الكثير من الطبيبات اللواتي كن يعتشن على مهنة (إرجاع كل حاجة) إلى ما كانت عليه بفرض مبالغ عالية على الضحايا من المغرر بهن من الفتيات.
“من الفصول التي تسمى (بالتعرضية) من قبيل الاعتداء بمختلف انواعه لا بأسنة الحراب فحسب، بل لشيء أهم من هذا وذاك وذلك الشيء هو السبب الباعث لاشتباك الأسنّة واحتدام الشجار والصراع المسلح. وكيفية تكوين هذا عن جرح كلمة مؤدية الى تحطيم شخصية أو مس كرامة أو مس عرض. وان هذه الكلمات بمنطوقها تؤدي الى مفهوم واحد وهو العار”.
هذه مقدمة فصل تحت عنوان (العار) في كتاب القضاء العشائري، الذي يبحث في الأصول والقواعد والعادات العشائرية، لمؤلفه فريق المزهر آل فرعون، وفيه قاعدة الصاق تهمة الزنا حكمه ومراسيمه حسب الأصول المرعية عند القبائل وعلى أساس الأعراف للعشائرية المختصة بمثل تلك المواضيع. وهو حكم واضح وفرض معلوم، ثابت لا يتمحور ولا يقبل التساهل عند جميع القبائل. ويخبر نفس الكاتب ان المرأة قد تقتل لمجرد الاخبار عنها بتهمة الزنا مبرراً ذلك بـ (أنّ العرف العشائري له حكم من العنف والقسوة بمكان في مثل هذه المواضيع، لان الشرف العشائري يأبى اشد الاباء ويكاد يكون اعنف شيء يستفز الشعور العشائري العربي، هو هذا الموضوع، ولذا نرى ان الرجل لمجرد سماعه بتهمة امرأة من لحمته بهذه الوصمة من قبل رجل آخر، فأول شيء يعمله ولي المرأة هو قتلها من دون قيد أو شرط حتى قبل التحقيق في قضية اثبات التهمة أو نفيها).
إن مثل هذه القيم المتجذّرة في العقل الجمعي، حملها المهاجرون الشرقيّون معهم إلى مجتمعاتهم الجديدة، ونسمع بين الحين والآخر عن جرائم قتل “غسلاً للعار” في هذا المنفى الأوروبي أو ذاك، سببها الهوة المجتمعيّة الكبيرة التي تفصل الآباء عن الأبناء، وتجعل للتناشز الإجتماعي الذي يصرّ (علي الوردي) على إلصاقه بمجتمعنا، فيما يخالفه كثيرون ممّن يرون في نظريته الإجتماعية، خروجاً عن جادة الصواب.