زياد العاني/
يرسم برؤية عميقة يقرب من خلالها علاقة التشكيل والسرد البصري في ابتكار تقنيات فنية تختلط فيها الألوان والأشكال وموضوعات الحياة اليومية، وهو من الفنانين الذين مروا بمراحل الرسم الأكاديمية انطلاقاً من الواقعي الى التجارب الحديثة الأخرى ذات التقنيات المختلقة، حاورناه عبر هذه الأسطر ليحدثنا عن تجربته الغنية..
* لكل فنان رسالة يؤمن بها وقضية يناضل من أجلها، ما قضيتك التي تؤمن بها؟
– بعيداً عن إيماني الأول بمسألة الجمال، وقناعاتي التي توجب علي إشاعة الجمال من خلال طرحه على شكل عمل فني أرسله على شكل خطاب بصري للمتلقي، أحاول أن أعلو بذائقته أو أتمكن من تطوير، أو إحداث تغيير في نمطية تفكيره أو زيادة شيء من وعيه، إن كان عملي طبعاً يحتوي على محمولات تحفزه على ما أريد. وأنا أؤمن -من جانب آخر- بأن الفن هو رسالة إنسانية توجب علي أن تكون قضايا وهموم الإنسان ومشكلاته الاجتماعية وضواغط المحيط والبيئة التي تدهس إحساسنا كل يوم، هي همي الأساسي في إنتاج عمل ذي فائدة أو ذي قيمة اعتبارية أو معنوية للإنسان على أقل تقدير، او للتاريخ الإنساني، او هذا ما أتمناه أصلاً حين أبدأ بتنفيذ عمل فني ما.
* هل تعتقد أن الفنان المميز هو نتاج الدراسة الأكاديمية أم أنه ثمرة الحالة الإبداعية؟
– بصراحة الجواب عن هذا السؤال سيكون جواباً قد لا يوافق قناعات الجميع، إذ إن الموضوع أصلا هو موضوع جدلي، فمن باب نرى بعضهم يؤمنون بأن الفن مادة علمية ويحتاج الى التطوير المعرفي وفق أسس أكاديمية صحيحة تؤسس الشخصية الفنية، ومن باب آخر تجد أن ثمة من يرى أن الدراسة الأكاديمية لن تقدم شيئاً أكثر من انها تجعلك تعرف علمية الأشياء، لا أكثر، وانا مع الرأي الثاني، لأني أرى أن الدراسة الأكاديمية في حقيقة الأمر هي مجرد تأطير لممارس الفن، مع أن هذا لا ينفي أهميتها اطلاقاً. القضية الإبداعية لا تأتي بمحض صدفة وإنما من خلال اكتساب مهارات عدة وتراكمها، مهارات معرفية، علمية وعملية يضاف إليها مدى اقدام الفنان وهمته في البحث والتجريب من أجل تحقيق شيء غير مسبوق، أو الإتيان بجديد، وهذا ليس سهلاً أبداً.
* ترسم برؤية عميقة في علاقة التشكيل والسرد البصري في ابتكار تقنيات فنية تختلط فيها الألوان والأشكال بالحكايات.. حدثنا عن هذه العلاقة التي تعمل عليها؟ والى أي مدى تريد أن تصل بأعمالك؟
– أنا من الفنانين الذين يميلون إلى أن يكون العمل ذا قصة أو حكاية، لأني في البدايات مررت كما يمر أي فنان آخر بمرحلة الرسم الواقعي، ومن خلال فترات التدريب الطويل بعمل (نسخ) بطريقة أمينة لتلك الأعمال، التي تنقلت فيها ما بين الأعمال العالمية، سواء أكانت أعمالاً كلاسيكية أو واقعية، أو حتى من أعمال المستشرقين. كانت دائماً تستهويني الأعمال ذات الإنشاء العالي المتقن، ما عزز لدي لاحقاً قضية ميلي لإنشاء أعمال خاصة بي، اقصد أعمالاً واقعية، وبعد مدة طويلة من العمل والتجريب والإنتاج، بدأت التجربة تأخذ أسلوباً أكاديمياً حراً ملت فيه لاختزال الإنشاءات وتبسيطها، ثم انسحب هذا الاختزال أيضا على الأشكال، حتى بدأت اللوحة تأخذ طابعاً تعبيرياً، عزز هذه المرحلة اهتمامي بتجسيد الطبيعة من خلال الخروج إليها ورسمها، وهنا بالذات بدأت مرحلة مهمة جداً بالنسبة لي، فبرغم كل التقيد الذي تمارسه الطبيعة بفرض انضباط على الفنان حين يرسمها، إلا أنها منحتني حرية لم يمنحني إياها أي محور آخر من التجريب، فأصبحت أخرج للطبيعة لكي أرسمها، ولا آخذ منها سوى المشهد مرة، وفي أخرى آخذ منها الدافع النفسي لإتمام أعمالي في أحضانها، من دون الالتزام بالشكل والتكوين، أو حتى اللون. وفي انتباهة مهمة في مكان غربي بغداد ذهبت لرسمه أكثر من مرة، كنت في كل مرة أجد أن المكان قد تغير نحو الأسوأ، فأصبح تركيزي كله منصب على رسم هذا الخراب الذي ينال طبيعتنا. أما بخصوص مدى الوصول، فأنا كحال أي فنان حالم وطموح، أنشد الوصول بأعمالي إلى أكبر عدد من المهتمين بالفن ومتابعيه، أتمنى أن أبقى بهذا الشغف والدافع في الوصول إلى العالمية.
*هل تؤمن بقوة الإبداع وتأثيره؟ وهل يمكن لجمال الفن أن يهزم أو يواجه قبح العالم المتمثل في الحروب والظلم وغير ذلك؟
– يقال إن العقل يُعنى بالحقيقة، وأن الأخلاق تهتم بالواجبات، أما الفن والجمال فإنهما يوصلانا إلى الذوق العالي. وإذا أردت لفنك أن يكون مفهوماً، فلا بد من أن يكون أصيلاً، صادقاً، من أجل أن يصل الى الناس، ولاسيما هؤلاء الذين تخاطبهم. وعملية الإبداع -بلا شك- هي قوة مؤثرة لها منافعها إذا ما أديرت بشكل جيد ومدروس ومفهوم، فلو قلنا إن هناك عملاً فنياً جيداً يحتوي على عناصر الإبداع، لكن لا يفهمه عامة الناس، ففي هذه الحالة كأننا نقول إن هناك طعاماً طيباً جداً لكن معظم الناس لا يستطيعون أكله. ما أقصده في أن يكون مفهوماً ليس شرطاً أن يكون مفهوماً لثقافة المجتمع الصورية المعهودة، لكن على أقل تقدير يجب أن يحمل مجموعة عناصر تغني الذائقتين الخاصة والعامة على حد سواء، وأسباب تجعلنا نقول عنه إنه عمل إبداعي. هذه المبررات والأسباب إذا ما توافرت في العمل، أعتقد أنها ستكون بمثابة خطوط دفاع تحمي ذائقتنا من الميل إلى قبول القبح. ونعم، أنا أرى أن الفن له القدرة على أن يجعلنا نواجه همومنا الكبرى بغلبة لصالحنا، كما يقول جبرا إبراهيم جبرا “الفن يشير إلى تحرر الإنسان في ساعات إبداعه ليعطي الحرية للآخرين.” فخطاب الفن أغلب وأهم من أي خطاب آخر، أو أية هموم، سواء أكانت حرباً أم عوامل نفسية، فهو عزاؤنا الوحيد أمام وحشية هذا العالم.
* كيف تقيّم عملك الفني لو تحولت الى ناقد، هل تعتقد أنه عمل مطابق لمواصفات العمل الإبداعي؟
– أضع نفسي دائماً في هذا الموضع، أحاول أن أكون أنا الناقد الأول والأخير لعملي، فأنا مقتنع تماماً بأن الفنان -شخصياً- هو الناقد الأفضل لعمله، بكونه الأعلم والأقرب لهذا النتاج، فهو عاش كل هموم وآلام مخاض هذا العمل إلى أن أوصله الى ولادته. لكني لا أستطيع أن أقول عن أعمالي أنها تحمل صفة إبداعية تامة، فأنا أبحث وأسعى باستمرار إلى أن تكون هكذا، وبما أن الوظيفة الأساسية للنقد هي تقويم العمل من جانب، وهذه علاقة الناقد بالعمل الفني، ومن جانب آخر فإن مهمة الناقد هي الأخذ بيد المتلقي للتعرف على العمل الفني بتحليله والحكم عليه من خلال وصفه، وإن كان (موريس فليمينگ) يقول إن “العمل الفني الجيد مثل الطبخة الجيدة يمكننا أن نتذوقها ولا يمكننا وصفها.” وعليه فإني بكل تأكيد سأعمل على أن أقوم تلك التجربة.