د. سعد عزيز عبد الصاحب – تصوير/ مصطفى سعدي
في مسرحية (الجدار)، يعلن المسرح العراقي عن عودته بقوة مرة أخرى، بعرض غير مسبوق منذ عقود، لا بفحواه الفكرية والجمالية، ولا بزمن عرضه الذي ناهز الساعتين والنصف متواصلة دون فترة استراحة، وعلى خشبة مسرح الرشيد في بغداد، دون أن ينبس الجمهور ببنت شفة، أو يرف له جفن، بإخراج لسنان العزاوي، ونص لحيدر جمعة.
انفتح نص العمل على جملة من الأنساق المضمرة والمسكوت عنها، الثاوية في جسد المجتمع العراقي المعاصر، وبمجموعة حكايات لنسوة مقصيات في مجتمعهن، تعرضن لانتهاكات وتنمرات ذكورية، ما أدى إلى ترك شروخ وندوب عميقة في نفوسهن، مع (ديوث) ـ ذكر متحول إلى خنثي – يدير المكان ويبطش بتهتك عارم بالنسوة المستباحات، وله حكايته التراجيدية أيضاً. بإخراج يقترب من مفهوم الواقعية الخيالية وسطوة الفنتازي والغرائبي في أشكاله (الغروتسكية)، وتأثراته السوريالية، وبصور ما بعد الحداثة وتصوراتها المتشظية للعقل والدين والسياسة واللاتمركز الحر في المشهدية، التي تقترب من العالمية في أفلام (فلليني) و(بازوليني) وسياقاتها في الجنسوية والنسوية والجندرية.
غريزة قذرة
تبدأ الحكايات تسرد نفسها في ضوء حكاية أولى لفتاة يخدعها حبيبها، ثم زوجها، بتغذية جسدها وتسمينه، غافلة بذلك عن مقصده الدنيء في أن يجعل منها (مومسته) الخاصة، ليكون قوادها فيما بعد. وواحدة يجبرها زوجها على الخوض في تجربة تبادل الزوجات مع صديق له. وثالثة، تلك التي تحلم بالطيران، فيخدعها أخوها عبر الإدمان والتخدير والاغتصاب، وتزوجت منه في النهاية. وفتاة رابعة حملت جنيناً من أبيها مرات عدة، إجباراً منه وتهديداً لإشباع غريزته القذرة. وخامسة خدعها ذلك السياسي المتنطع وسلب منها إنسانيتها، فحوّلها إلى راقصة للياليه الحمراء وشهواته الحيوانية المتجددة. وأخرى استدرجها ذلك الرسام الحقير إلى مرسمه ليغتصبها فتتمنع، فيحرق وجهها بماء النار، فتقتله وتمزقه بفرش الرسم. وسابعة متزوجة من رجل يدمن الأفلام الإباحية ويطبق معها ما يشاهده من قذارات. وثامنة تحاول أن تخلص بناتها المغتصبات من أبيهن وبذاءاته، فتموت غرقاً. والأخيرة تتستر بالدين والتقية وتردد ترديدات دينية، لكنها أقرب ما تكون إلى الدنس. والديوث وطفولته القاسية عندما يتعرض للاغتصاب وهو بعمر الأربع سنوات.
خيار المواجهة
الغريب أن جميع الشخصيات بلا أسماء، ولكل شخصية حكاية أغلقت عليها الأبواب وسورتها الجدران. غلب على الحكايات الطابع (الإيروتيكي) الجنسي الشاذ. أما شخصيات الجلادين فقد أعطاها الإخراج ملامح حيوانية (فيل، خنزير، قرد)، أما سيد المكان الذي يحكم الجميع، ويتلاعب بمقدرات ومصائر الوافدين للمكان من ضحايا، فهو (الجوكر/ المهرج)، الذي يتلّون بحسب الزمان والمكان، فقد ظل صامتاً ولم ينطق بكلمة، ليبقى في إطار صورة تجريدية موحية تتناسب وحضوره في ورق اللعب وتحريكه لأحداث حبكة المسرحية، وأزعم أن المهرج (الجوكر) رمز جديد ووافد على المشهدية المسرحية العراقية، لكنه وظف بديناميكية عالية في العرض. أما مناخ العرض وإيقاعه، فقد جاء مناخاً أوربياً، أو فرانكفونياً، وليس مناخاً محلياً، عكسته السينوغرافيا ببياضها وجدرانها وأبوابها وإضاءتها، والأنساق السمعية وميلودياتها الأوبرالية، وأجواء السيرك والأكروبات والمهرجين. ورب سائل يسأل: هل كانت نماذج العرض، من الشخوص النسوية ومضامينها وفضائحها، تمثل ظاهرة حرية بالتمسرح في المجتمع العراقي اليوم؟ أم هي مجرد نماذج لهوامش قصية لا تمثل ظاهرة اجتماعية في المجتمع؟ لقد اختار المؤلف والمخرج خيار المواجهة الصادمة لظواهر قد تكون فردية وهامشية،لكنهما سلطا الضوء الساطع عليها لكشفها وتعريتها، ومن ثم معالجتها، إذ إن الفنان المبدع يمتلك استشرافاً وحدساً بهذه المشكلات والعلل الاجتماعية المضمرة. وحقيقة هذا هو دور الفنان المسرحي العضوي في اشتباكه مع الوقائع وفضحها قبل استشرائها وسيادتها.
مباراة أدائية
الملاحظة الوحيدة التي من الممكن أن تمثل إشكالية في البناء الدرامي والفني وحبكة المسرحية هي نهايات النسوة التراجيدية بقتلهن لمغتصبيهن أو انتحارهن، أفقدت هذه النهايات بعضاً من مستوى التعاطف مع النسوة من قبل المتلقي مع حكاياتهن وأزماتهن النفسية، إذ أصبحن قاتلات جنائيات فقدن الجانب الإنساني في التعاطي مع الآخر / المغتصب، وغياب فكرة العدالة التي تنطلق أو تنبثق من القانون الوضعي، ليصبح الجميع – حسب العرض – في غابة لا تحكمها إلا الغرائز الدموية في تصفية الآخر والقصاص منه. أما على صعيد الأداء التمثيلي، فقد شهد العرض مباراة أدائية وإبداعية شرسة بين الممثلات والممثلين، وأعني كلاً من آلاء نجم، ويحيى إبراهيم، ولبوة عرب، ورضاب أحمد، وإسراء رفعت، وزمن الربيعي، ورهام البياتي، ورنا لفته، ودريد عبد الوهاب، وفيروز طلال، وأيمن الشاهين، وأماني الحافظ، وعراق أمين، وعبير الخفاجي، وشيرين أحمد، ونعمت عبد الحسين، وأسيل أحمد. مع نخبة من طلبة معهد الفنون الجميلة في بغداد، والضوء الباهر لعلي سوداني، وموسيقى ومؤثرات رياض كاظم، إدارة الإنتاج محمد النقاش.