عبد الجبار العتابي /
حدثني الموسيقار الراحل سالم حسين (1923 – 2015) أنه ترك القاهرة عام 1961 بعد أن استقر بها منذ عام 1959 عائدا الى بغداد بسبب شارع أبو نواس وقد ذكرته أمامه المطربة فائزة أحمد في جلسة على شاطئ نهر النيل حين قالت بشكل عفوي (كأننا الآن جالسون في شارع أبو نواس وما ينقصنا سوى السمك المسكوف)، فهاج الحنين في نفسه وانتفض الشوق في أساريره، ما تسبب في اصابته بمرض نفسي تكلل بنصيحة من الطبيب أن يعود الى بغداد ليتعافى، فعاد تاركا العديد من المشاريع المهمة مثل موعده مع السيدة أم كلثوم.
شارع شاعر.. بين يديه الماء والخضراء وفيه الوجه الحسن، يركض في الصباحات ممارسا رياضته الصباحية لينفض عنه شوائب السهر ويسير في المساءات الهوينى، يوزع أجمل ما لديه من ورود الأغنيات على كل من يمتطي أرصفته أو يقتعد أمكنته أو من يتأمل ابتهاجات شواطئه.
أبو نواس.. شارع شاعر.. جاء من عصور قصية وركز اسمه على امتداد مساحة تشكل جزء كبير منها على شكل هلال، على أحد كتفيها، يمر نهر دجلة الخالد لتصبح عالمه الفسيح الذي يكتب على رحابه تحولات الأزمنة ويقرأ شعره على النواصي والأطلال والخمارات، لكنه من هول ما عاناه تغير كثيرا وقد عاش لسنوات ما بعد 2003 محاصرا وتتراكم الأسلاك الشائكة على مساحات.
شارع أبو نواس حمل اسم الشاعر العباسي الحسن بن هانئ الشهير بأبي نواس (136 هـ – 195 هـ) وليست مصادفة أن يحمل هذا الشارع اسم الشاعر وقد كان قريبا منه أثناء حياته وليس ادل على ذلك بيته الشعري القائل (اما وقطربل منها بحيث ارى / فقبة البراك من اكتاف كلواذ)، وكلواذ هي (كلواذا) التي هي قرية بابلية مكانها الآن منطقة الكرادة الشرقية التي تقع على مرمى حجر من شارع أبو نواس الحالي، حيث كان شارع السعدون او مقترباته هو شارع كلواذا المؤدي الى الباب الشرقي الآن، وقد ظل هذا الاسم (البابلي) حتى بعد أن سقطت الدولة العباسية، ولم تأت التسمية اعتباطا بل من قبل لجنة شكلتها أمانة العاصمة لتسمية شوارع بغداد عام 1930 من بين أعضائها الشاعران الزهاوي والرصافي والأب انستاس الكرملي.
شارع المسرات
يقع شارع أبو نواس في جهة الرصافة وسط بغداد، يبدأ من نهاية شارع الرشيد (جهة الجنوب) عند جسر الجمهورية وينتهي عند منطقة الجادرية جنوب غربي الرصافة حيث يقع جسر الجادرية (انشيء عام 1982) الذي هو الحدود الأولى لجامعة بغداد، وتترامى خلفه شوارع ومناطق عديدة منها شارع السعدون المحاذي له ومنطقة العلوية ثم منطقة كرادة / داخل فالزوية وصولا الى شبه جزيرة الجادرية، وللشارع ميزة خاصة هي أنه أطول شارع مسرات في الدنيا، هلاله خصيب بالامتاع والمؤانسة واليه (كان) يذهب الناس ليتزودوا من صفاته البهيجة التي على رأسها روعة الشاطئ وأمامه مطاعم السمك المسكوف العامرة على الدوام بعشاق طيباتها حيث ترى الزوارق راسية والصيادين يبيعون السمك لتأخذه العوائل وتعمل على (سكفه) لدى المطاعم ومن ثم تفترش الحدائق لتناوله، ولا يمكن لزائر يزور بغداد من دون أن يمر بالشارع ويدخل أمكنته الغناء بصور أحواض الماء التي يلبط فيها السمك أو المجامر التي تلتهب نارها على أجساد السمك، وما زال أصحاب المطاعم والمقاهي يتذكرون المشاهير من العرب والأجانب الذين زاروا الشارع واعربوا عن سرورهم ودهشتهم، فضلا عن وجود العديد من المراكز الثقافية والمؤسسات والفنادق والبيوت التراثية
درب الشط
ذاكرة المكان تؤكد أن الشارع كان يحمل اسم (درب الشط)، وحسب الباحث الدكتور عباس فاضل السعدي أن (درب الشط) هو الطريق المحاذي لنهر دجلة والممتد من الباب الشرقي حتى البقعة المعروفة بأسم الجادرية في منطقة الزوية، وهو من أقدم الطرق في المنطقة وكان موجودا منذ العهد العثماني وهو بمثابة سدة ترابية محيطة بنهر دجلة قام بتقويتها الوالي العثماني ناظم باشا.
شهادة احسان الملائكة
وذات مرة سألت الكاتبة احسان الملائكة (1925 – 2010) شقيقة الشاعرة نازك الملائكة (1923 – 2007) عن بيتهم في المكان فقالت لي: منزلنا في الكرادة الشرقية بمحلة (ابوقلام) يقع وسط بساتين كثيفة عند شاطئ دجلة، ولم يكن لنا من الجيران غير دار جدي لأبي الملاصقة لدارنا، ثم دار الرسام شوكت الخفاف، ولم يكن شارع ( ابو نواس) قد اسس بعد، كانت البيوت الواقعة على (السدة) لا يفصلها أحيانا عن النهر أكثر من متر واحد.
بدأ العمل في الشارع عام 1932 وسمي بـ (أبو نواس) وقد تمت زيادة عرضه وتنسيقه استعدادا لتبليطه، وتشير المصادر التأريخية الى أن التعريض جرى من ناحية البساتين مع هدم الجدران والدور الطينية وادراجها الى المقدار المقرر، اي حدود الدور المشيدة حاليا وجرى تبليط الشارع سنة 1933 و 1934 وقد بلط من جهة الباب الشرقي الى ما بعد نادي العلوية، وفي ذلك الحين قامت امانة العاصمة بتنسيق حدائق الشارع الواقعة على ضفة النهر وتشجير الأرصفة وايصال الماء الى جميع الحدائق المذكورة مع انارة الشارع بصورة كاملة، كما شيدت الأمانة عددا من البنايات الصغيرة الشبيهة بالاكشاك لبيع المرطبات والاكلات السريعة، وسمحت بانشاء الكازينوات والمقاهي والمطاعم لرواد الشارع والمتنزهين، ويمكن استذكار الجراديغ المقامة على شاطىء النهر ومن أشهرها (الجرداغ) الذي نصبه الفنان وجيه عبد الغني ( 1933- 1998) وفيه تمت ولادة مسلسل (تحت موس الحلاق/ 1960) الذي كتبه سليم البصري وهذا الجرداغ أصبح فيما بعد (المقهى البغدادية) التي اسسها الراحل والممثل الكبير محمد القيسي.
عيون المخبرين
كل ذلك والذاكرة تغترف من الماضي حيث صارت الستينات والسبعينات هي أجمل ما كانت عليه أحوال ومن ثم بدأ العد التنازلي لتدميره وتهجير امتاع ومؤانسته بعد ان وضع النظام السابق الأصفاد على حرياته، فألزم الشاطئ باسلاك شائكة والزم العيون أن لا ترسل نظراتها الى الجانب الآخر من النهر لان فيه القصر الجمهوري فاقتلعت الأشجار وزرع المخبرون مكانها وتحول الشارع الى ثكنات أمنية وعيون مراقبة فاقفلت المقاهي والمطاعم وتفرق الناس خشية البطش أو التهم الملفقة وحتى تمثال أبو نواس لم يسلم فصار الكأس الذي في يده منفضة سكائر او (مبولة) لاولئك المخبرين، وعاش الشاعر وحيدا في صحراء المكان فما عاد يقرأ الشعر ولا يتسامر مع السهارى.