عبد الجبار العتابي – عدسة :صباح الإمارة/
ما زالت (الصدرية) تتصدر المحلات البغدادية القديمة بنشاطها وحيويتها وقدرتها على أن تكون أمكنتها حافلة بالحنين، مثلما تشي بذلك الدرابين الصغيرة والحيطان العتيقة والأبواب التراثية، لاسيما أنها تحتفظ بعبق الماضي البغدادي بالرغم من التشوهات والاندثارات التي نالت منها، وما زالت المحلة محطة استقطاب للباحثين عن المتعة والدهشة والمزاج البغدادي، فيما سوقها يعلن أنه استثنائي ومميز وإليه الناس تأتي من بعيد، لكنما ثمة وجع تستحضره المحلة يتمثل في قسوة التفجيرات الإرهابية التي ضربتها وأدت الى استشهاد مئات من أبنائها.
ذاكرة نشطة ومعنويات عالية
من أينما تأتيها تجد أن ذاكرتها نشطة ومعنوياتها عالية وأنها تحاول أن تحافظ على روحيتها المفعمة بالطيبة، وأن وجوه ناسها تتألق بالأمل والتفاؤل والتمسك بالمكان، لاسيما من أولئك الذين عاشوا فيها أباً عن جد عبر أجيال تتوارث الحنين والمحبة برغم المعاناة التي عانوها من ظروف حياتية مختلفة والبيوت القديمة التي ما زالوا يسكنوها، وإن حاول بعضهم أن يجدد داره وفق مستجدات العصر وحجم أسرته، لكنها في كل الأحوال تمتلك خاصية أنها محلة بغدادية قديمة في الكثير من تفاصيلها ابتداء من درابينها وشناشيلها وتصميم بيوتاتها وصولاً الى رائحتها المعتقة ولهجة الناس المحببة، الذين تقرأ على ملامح وجوههم حكايات لأزمنة خلت ترتبط كلياً بالمكان وكأن هذه الوجوه أخذت ملامحها من ملامح المكان. حتى الأطفال هناك تشعرهم، في لعبهم ومرحهم، امتداداً لحكايات المحلة عبر تاريخها، خاصة أنها تعيش على طرف مهم من شارع الكفاح وحيث الجزء الجنوبي الذي يرتبط بمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني، فكانت هناك محال تجارية ومطاعم ومقاه شعبية كثيرة، فيما في الجزء الشمالي منها ازدهر السوق حتى أصبحت شهرته ذائعة الصيت في عموم بغداد، ويدهشك أن تسمع من كثيرين أن أجمل صباح يمكن أن تتعرف عليه هو الذي في منطقة الصدرية، وباللهجة المحلية يمكنك أن تسمع جملة (والريوك الزين من محلة الصدرية) تتردد عند الكثيرين ممن يقطعون مسافات طويلة للجلوس في مطاعمها الصباحية التي تبهج النفس، وحيث القيمر والعسل والجبن واللبن والكاهي فضلاً عن الشاي المهيل الذي رائحته تجذب المارة الى التوقف ولا بد من شرب (استكان) شاي وإن على عجل!.
فنانون عاشوا فيها
ومع هذا من الممكن أن تجد ما لا يسر القلب، وقد حدثت تجاوزات في المكان على بعض الدلالات المكانية التي تغيرت أحوالها واندثرت أشياء منها بسبب الإهمال، ومن الجميل وأنت تتجول هناك أن تتوقف عند العديد من الأشياء التي تلفت النظر وتسره كما تتعرف على أهم الشخصيات التي ولدت وعاشت في محلة الصدرية، ومنها الفنان التشكيلي الدكتور خالد الجادر (1924 – 1988) الذي شغل منصب عميد معهد الفنون الجميلة عام 1960، وهناك محمود فهمي درويش الذي ولد العام 1905م ودرس الصيدلة وانشأ أول مختبر في بغداد والذي عرف بمختبر ابن سينا والفنان التشكيلي حافظ الدروبي (1914 – 1991) والمطرب محمد العاشق (1905 – 1984) ومطرب المربعات البغدادية فاضل رشيد (1929 – 1995) وغيرهم من الشخصيات التي أبدعت في مجالات مختلفة.
والصدرية.. محلة بغدادية قديمة، يعود تاريخ وجودها الى العصر العباسي، حيث يؤكد الدكتور عماد عبد السلام رؤوف (أنها كانت تعد في العصر العباسي جزءاً من محلة المأمونية ثم عرفت باسمها هذا نسبة الى دفينها الشيخ صدر الدين محمد بن محمد الهروي المدرس في المدرسة البشيرية والمتوفى سنة 677 للهجرة بدلالة ما كتب على رخامة وجدت عند قبره، ويرد اسم هذه المحلة في سجلات المحكمة الشرعية منذ سنة 1233 هـ / 1817 م ، ما يدل على تزايد أهميتها، ومع هذا يشير بعضهم الى أن اسم المحلة كان نسبة إلى مستشفى للأمراض الصدرية كان في المنطقة يعود تأريخه إلى أربعينات القرن الماضي، والذي اندثر وتحول إلى بيوت، ولكن الكثيرين يؤكدون أن الرواية الأولى هي الأصح لأن جامع الشيخ صدر الدين أقدم من المستشفى فضلاً عن أن اسم المحلة المجاورة لها (سراج الدين) نسبة إلى المحدث المقرئ الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن عمر الحسيني القزويني الشافعي، المتوفى عام 750هـ – 1349م، وتؤكد المصادر التاريخية أن محلتي الصدرية وسراج الدين ذابتا ببعضهما ليكون اسم (الصدرية) الأكثر شهرة وتداولاً، ولا تكاد تميز حدوداً فاصلةَ لهما في الوقت الحاضر حتى أصبحتا محلة واحدة، وقد ذكر الكاتب البريطاني (فلكس جونز) في كتابه (أحوال بغداد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) أن محلة سراج الدين كانت تتكون عام 1846 من جامع سراج الدين، وعقد الأباريقي، وعقد صدري، وعقد التكمه جي، وعقد السبيل خانة، وعقد طاق العوينة، وعقد أهل برشت، وعقد الحاج وعقد حبيب وعقد الحياج (الحائكين).
بين أسواق ودرابين
تشير المصادر التاريخية الى أن الصدرية كانت في أوائل القرن العشرين تتكون من سوق الصدرية ومحلة سراج الدين و(دربونة) الكَبي (بالكاف الأعجمية) والآتون والسوق الجديد والعزة والجنابيين وبستان شاهين والدوكجية (عقد الأكراد) والعوينة، والكَبي وهي (دربونة) صغيرة تبدأ من شارع الوثبة موازية لبداية سوق الصدرية حتى فضوة الصدرية وكانت فيها قبة سميت على اسمها في الماضي وأصبحت الآن محلة صغيرة فيها مدرسة ابتدائية في الطرف الشمال الشرقي من جامع سراج الدين، ولم يبق من مسمياتها القديمة الا الكبي والآتون والعوينة التي تتوسطها ساحة كبيرة لوقوف السيارات تابعة لأمانة بغداد التي شيدت فيها في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وتعرضت الصدرية عام 1914م إلى الغرق وفي العام الذي تلاه احترقت الصدرية في حريق بغداد الشهير الذي استمر أربعة أيام.
ذاكرة طرية
جولة في ذاكرة المحلة تعطينا صوراً كثيرة للعديد مما احتضنته المحلة عبر مراحل من حياتها، فهناك تتعرف على شكل الفضوة الواسعة في نهاية السوق التي كانت تسمى (علاوي الحبوب)، ومن الممكن أن تسأل لتعرف اسماء أنواع الحنطة مثل (الداوودية والقنطرة والـ “عراكية” اي العراقية، كما يمكن مشاهدة أشهر أصحاب هذه العلاوي وتتعرف عليه وهو يقول لك أنه (أحمد جمعة البياتي)، وهو والد الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، كما تتعرف على (خان لاوند) القريب من سوق الصدرية، وكان يباع فيه الملح، لم يعد له أي أثر اليوم، ولكن اسمه ما زال حاضراً في المكان، كما يمكنك أن تتخيل نفسك في داخل مقهى (النبكة) حيث تشاهد مباريات مهارشة او مكاسرة الديكة التي انتشرت بين البغداديين منذ القرن الخامس الهجري، كما يمكنك أن تشم رائحة شواء الكباب في مطاعم المحلة، مثلما يجدر بك أن تلقي تحية الصباح على بائعات الخبز والقيمر والروبة، القادمات من دربونة المعدان، كما سيسرك أن تدخل سوق البزازين الذي يقع بامتداد السوق الملاصق لجامع سراج الدين وتعاين الأقمشة بأنواعها، مثلما ستقف أمام دكاكين لصاغة الذهب والفضة.
حكايات عشق
في الصدرية يمكنك أن تسمع بعض الحكايات الظريفة التي اختزنتها الذاكرة الجمعية للناس، ومنها ما تسمى (الردة) التي اشتهرت وهي (سودة عليه ماخذت حمادي {أبريج فضة واللكن بغدادي})، وفيها حكاية بنت من محلة الصدرية اسمها (نعيمة) التي عشقت (حمادي) صانع الأباريق الفضية عندما كانت هي تتجول يومياً بين الدكاكين الخاصة بجلي وتبيض وتفضيض الأواني والقدور والطشوت والأباريق في دربونة كان يطلق عليها(الكبي) وتسمى الآن شارع الوثبة وبعد قصة حب امتدت لسنوات هجرها (حمادي) ليسافر الى اسطنبول بعد أن رفض أهلها تزويجها منه، فما كان منها الا أن تندب حظها العاثر بقولها (سودة عليّ ماخذت حمادي).
الصدرية في بابا سارتر
قد يكون لمحلة الصدرية حضور واقعي مهم في الحياة البغدادية باسماء شخصياتها ومعالمها، إلا أن الروائي علي بدر اختزنها في ذاكرة روايته (بابا سارتر) وهو يتناول فيها (سيرة فيلسوف كان يقطن محلة الصدرية إبان الستينات) اسمه (عبد الرحمن أمين شوكت ) الذي يقول عنه أنه (سليل عائلة ارستقراطية اسقطتها الثورة إلاّ أنه كان متمرداً على العائلة حتى قبل الثورة)، وفي الرواية يتردد كثيراً اسم محلة الصدرية وحكايات منها وشخصيات عاشت فيها مع الكثير من التفاصيل عنها التي يلتقطها الروائي، الحكايات من أفواه الناس البسطاء من سكنة الصدرية ورواد المقاهي والحانات البغدادية وهو يتغنى بسحر المكان.