عبد الجبار العتابي /
سموها (العالمية) لان فكرتها هي ان تنطلق منها القطارات الى دول العالم وتربط بين الشرق والغرب وهي تحمل اسم بغداد وقد كانت الاحلام تراود الأجانب ان تكون كذلك، لان لديهم مشاريع طموحة حالمة بالسيطرة على بلاد المشرق، لكنما المحطة انتهت الى ان تكون محلية، بيد انها تتطلع دائما الى ان تخترق الحدود وتطل برؤوس قاطراتها لتنفيذ حلم الاسم الذي تحمله.
الدخول الى المحطة العالمية من بابها الرئيس الشرقي يفتح أبواب الذاكرة مثلما يجعل القلب يحتفل ان المحطة ما زالت تحتفظ بهيبتها وجمالها وعنفوانها على الرغم من التغييرات البسيطة التي طرأت على بعض اشيائها، وأول باب للتذكر يفتح من خلال أول قاطرة بخارية استخدمت في السكك الحديد، وهذه موضوعة في حديقة صغيرة تقع قبالة الباب الرئيس لبناية المحطة العالمية من جهة الشرق، وبالقرب منها لوحة معلومات عنها تفيد انها صنعت في برلين عام 1914 ووضعت في الخدمة في العام نفسه وسرعتها العظمى 25 ميل في الساعة واوقفت عن العمل في 13 آب 1951 ووضعت في هذا المكان في احتفالات 14 تموز 1960 .
ومن هذا المكان يمكن ان تتأمل الكثير من الأشياء عن تاريخ السكك الحديد والقاطرات حيث تشير الوثائق المتداولة الى (ان المانيا وبعد الاتفاق بينها والحكومات العثمانية والبريطانية خطت خطوة فعالة في اطار تنفيذ مشروع مد خط سكة حديد الاناضول من استنبول الى الموصل ومنها الى بغداد والبصرة كما كان مقررا ايضا ان ينتهي هذا الخط بالكويت على الخليج العربي، وكان هذا الخط قد عُرف تاريخيا بخط سكة حديد بغداد البصرة برلين أو ما سميّ بـ (سكة الباءات الثلاثة)، ولم تكد تحل سنة 1912 حتى وصلت أول شحنة من مواد انشاء خط سكة حديد بغداد، وفي سنة 1914 ومع اندلاع لهيب الحرب العالمية الأولى كان الخط العريض للسكة مابين بغداد وسامراء قد تم انشاؤه.
فكرة بناء المحطة
لكنني انتبهت الى انني آت لاستطلاع (المحطة العالمية) وليست خطوط السكك أو حكايات القطارات، لذلك وجدت ان فكرة بناء المحطة العالمية في بغداد كانت قائمة منذ بدايات القرن العشرين المتخمة بالكثير من التفاصيل والأحداث الخاصة بهذا الموضوع وقد كانت الدول العظمى ترى في العراق موقعا مهما في خارطة الشرق الأوسط، الا ان مشروع بناء المحطة بشكل جدي بدأ في الثلاثينات (تماشيا مع خطة تطوير النقل القاري التي شهدها العالم آنذاك) وتم اختيار الموقع الحالي على أن يتكامل وظيفيا مع (مطار المثنى/ 1931) وهو (مطار مدني حينها) لكن المحطة والمطار انفصلا بعد أن فتح الزعيم عبد الكريم قاسم الشارع الرابط بين علاوي الحلة (تقاطع دمشق) والكاظمية (ساحة عدن) سنة 1961.
هذا المكان لم يكن الا طرف (الكرخ) وما بعده الا أرض خالية وكل ما حوله مفتوح الآفاق والمديات، وليست فكرة بناء المحطة العالمية جاءت مصادفة، بل مخطط لها، وتؤكد المصادر ان سلطات الاحتلال الانكليزي توسعت في استملاك الاراضي بموازاة الخط الحديدي لغرض بناء المحطات وورش التصليح فعندما وصلوا بغداد بنوا ثلاث محطات رئيسة، اثنتان في جانب الرصافة وهما محطة شمالي بغداد (الباب المعظم) والثانية في شرقي بغداد (محطة الباب الشيخ)، أما الثالثة فكانت في جانب الكرخ وهي محطة (غربي بغداد) والتي استقبل فيها الملك فيصل الأول عند قدومه الأول من البصرة الى بغداد.. وعند شمال هذه المحطة اسسوا معامل الشالجية، وهي من اكبر الورش الصناعية في تاريخ العراق لتصليح القطارات وعربات النقل.. وظل هذا المرفق الصناعي يقدم خدمات التصليح والعطل ويرفد الجهد الصناعي بالعمال والفنيين المهرة طيلة دخول القاطرة الى العراق.
وتؤكد الوثائق ان ادارة هذه المحطات تسلمتها شخصيات عراقية وطنية.. وان أول ما فكرت به هذه الشخصيات هو انشاء محطة مركزية كبيرة على غرار محطة لندن لتكون منطلقا لجميع خطوط السكك في العراق، ورسا مشروع المحطة العالمية في نهاية الاربعينات على شركة انكليزية هي (Holway Brothers)،وشرعت هذه الشركة بالبناء واكملته مطلع الخمسينات وانتقلت لهذه البناية الضخمة ذات القبة الخضراء الادارة العامة للسكك الحديد العراقية بجميع اقسامها ماعدا المطبعة.
ويلسون!
مبنى المحطة انجز بين أعوام (1947-1951)، ويقول عنه الدكتور ثويني (الطراز العام للمبنى جاء مهاجنا بين طرز شتى غلبت عليها العناصر الإنكليزية للحقبة الفكتورية المتأخرة مع بوادر الحداثة التي انطلقت بقوة بعد الحرب الثانية كخيار غالب حتى عند الإنكليز المحافظين. ونرصد نجاح معمارها ويلسون ج.م. Wilson G.M (1887-1965م)، في إضفاء سمات محلية من خلال خامة الطابوق. وقد وظف قبة كروية مقطوعة (طاسة)، ومنخفضة نسبيا وغطى بها البهو الرئيس. وهذا العنصر الأزرق الفيروزي وهب المبنى سمة محلية تتواشج مع السماء والمقدس في رمزيتها، وتعد إنشائيا من أمهات المنتج العراقي الدهري مثل عنصري العقد والطاق).
ويؤكد د. ثويني ان ويلسون استفاد من الطرق البنائية والخبرات المحلية (أسطوات الحرفة) ولاقح العمارة العراقية مع الكلاسيكية الجديدة الإنكليزية التي تهاجنها خامة الطابوق، وربما تأثر الإنكليز بالهنود الذين تتجذر فنون الطابوق عندهم منذ (موهانجو دارو 2100ق.م) السومرية في السند.
كما يقول ثويني :هنا نسجل اعتماد ويلسون على الأسطة حمودي العزاوي- الكظماوي صاحب المناقب البنائية. وقد ألتقينا أحد من مكث من بُناتها وهو الأسطة عبود حمود الكناني، الذي يتذكر كيف نفذ (الجف قيم) على واجهاتها.
محطة مركزية
ولانها المحطة المركزية التي مقرها العاصمة بغداد فهي محطة القطارات الرئيسة للعراق كله، الصاعدة والنازلة، وعندها تجتمع احوال المحطات الفرعية لمراكز المحافظات والأقضية والنواحي والقصبات والقرى المنسية الصغيرة واحوال الذين يعملون فيها، كل يوم تأتي التقارير حاملة الأسماء والأحداث والوقائع اليومية التفصيلية لاحوال السكك الحديد وما حدث لها من تغيرات ومشاكل وما مرت عليها من قطارات سواء كانت للمسافرين أم البضائع، مثلما يكتب (مأمورو السير) في القطارات تفاصيل رحلتهم ذهابا وايابا واسماء طاقم الرحلة ابتداء من السائقين ومساعديهم الى فاحص البطاقات (التيتي) وكهربائي (عربة الطاقة) الى معيني العربات المسؤولين حتى عناصر الشرطة الذين يرافقون القطار، وكل هذه يتلقفها الموظفون داخل بناية المحطة العالمية ويعملون على تدوينها في سجلاتها ويعملون على تنفيذ الملاحظات فيها.