بقلم: خضير الزيدي /
قدّمت لنا الدراسات المختصة في الميثولوجيا والأنثربولوجيا والتاريخ تصوراً عن المكانة المهمة للمرأة في بلاد وادي الرافدين، سواء الاجتماعية منها أو السياسية، بل وحتى المكانة التي جعلت منها آلهة أمّاً وما انبثق عن هذا الدور من طبيعة أعطت لها خصائص وجودية جعلتها تسمو في وضعها على الرجل. وأمدّتنا تلك الدراسات بشيء من تصور مفاده أن المرأة تسيّدت وتربّعت على عرش الدولة فترة تاريخية طويلة.
وما تركته التماثيل الشرقية والنصوص المكتوبة على جدران المعابد أو في الألواح والرقم الطينية لهي خير دليل وشاهد على قراءة واقع البدايات الأولى للحضارة ومكانة المرأة فيها. وجعلتنا تلك التوصّلات المعرفية نعي تماماً بأن المجتمعات أرست نشاطاً ملحوظاً وموروثاً نتيجة لصورة (الأم) وهيمنتها كآلهة لا يشاركها الحكم إلا ابنها، والذي بدوره خلق نوعاً من التأسيس للآلهة الذكرية. وهذا ما كان واضحاً من خلال تعدد أسماء الآلهة الأم، فهناك الكثير من الأسماء المتنوعة في سومر وبابل واليونان والهند، ومنها على سبيل المثال (نمو، أنانا، ننخرساج، أفروديت، فينوس، عشتار)، وهذا ما غيّر في رؤية تلك الفرضية التي وجدت في النظام الأوّلي للعائلة نظاماً أبويّاً. واستطاعت أغلب الدراسات المهتمة بالشأن الأنثربولوجي والتاريخي أن تفنّد تلك الفرضية من خلال قراءة المشهد تاريخياً حين تبينت مكانة قيم الأنوثة في العالم القديم ومكانة الأمومة. وكانت الانطلاقة البدائية للعائلة هي النواة التي صنعت خلية المجتمع الأمومي، وإن تبدو غامضة بعض الشيء إلا أن الواقع الكشفي للتاريخ يثبت صحة ما نقول. وعليه أفرزت نظاماً غريباً وهو انتساب الأبناء إلى الأم، وهذا ما يسميه الباحثون في الشأن الأسطوري والتاريخي بـ(حقّ الأم)، والذي من خلاله ينتسب الأولاد إلى الأم وليس إلى الأب، ولهم من شرائع الإرث أكثر مما لزوجها في حالة الموت. ولقد ترتبت على هذه الأمور مفاهيم وقيم من علاقات وحقوق طبيعية. وعلى هذا الأساس ولدت مرحلة جديدة من نظام العائلة منها:
ـ تحريم العلاقة الجنسية بين الأبناء والآباء.
ـ تحريم العلاقة الجنسية بين الإخوة والأخوات، وهذا ما أدى بدوره إلى خلق نوع من العلاقة العائلية الضيقة، على العكس من النظام القديم للعائلة الكبيرة.
ـ والنوع الأخير هو تأسيس نظام العائلة الثنائية.
ونتيجة لهذا التطور في البنية الاجتماعية أنتج هذا النوع وضعاً متغيراً، فكان للمرأة الحق في الانفصال عن الرجل أنّى شاءت، مع الاحتفاظ بانتساب البنين والبنات إلى حضن الأم. إلاّ أن المؤشر المهم في هذا التغيير هو حدوث انقلاب ذكوري جاء نتيجة لتفكير الرجل بتغيير المعادلة السابقة وقلب نظام الوراثة القديم، فأصبح الأمر في نهايته منطلقاً لإرساء مفهوم (حقّ الأب). وأسفر هذا التكوين الجديد عن قيام العائلة الأحادية، فكانت تلك هي الهزيمة الأولى التي منيت بها المرأة في تاريخ تكوين الإنسانية، وعليه مارس الرجل الاستعباد الذكوري تجاه المرأة، وتعمّق الشعور بذلك يوماً بعد يوم حتى أننا لنراه قائماً في زماننا هذا. إلا أن الغريب هنا هو أن أغلب المختصين في الحقل المعرفي للأنثربولوجيا والتاريخ القديم يؤكدون على وجود نوع من القبائل لا وجود للرجل فيها، ومنها ما جاء في الأساطير عن النساء الأمازونيات اللواتي شكلن قبيلة كبيرة وكانت لهن طقوس خاصة بهن، ومن أعمالهن المشهورة التي تؤكدها الأسطورة أنهن يحاربن الرجال ويقمن باختطاف بعضهم من أجل ممارسة الجنس معهم لغرض الإنجاب، وفي حالة إنجابهن الذكور تقوم النسوة بقتلهم وتبقي على الإناث لزيادة أعدادهن. ويخبرنا التاريخ أن هرقل وثيسيوس قضيا على هذا النوع من الأمم. كما نجد في كتاب (لغز عشتار) لفراس السواح أدلة من هذا القبيل، إذ يذكر المؤلف مضموناً لأسطورة إغريقية يوضح فيها أصل اسم مدينة (أثينا)، حيث تذكر الأسطورة انبثاق نبع ماء غزير فوجئ الناس بوجوده صباحاً ووجود شجرة زيتون شاهقة لم تكن موجودة من قبل، وتأكدوا أن وراء هذا النبع سراً عظيماً، فبعث الملك إلى العرافة ليستطلع منها معرفة الأمر فجاء تفسير ذلك: أن شجرة الزيتون هي الإلهة «أثينا» وأن نبع الماء هو الإله «بوسيدون» إله البحر، وأنهما يخيران أهل المدينة أيّاً من الاسمين يطلقون على مدينتهم، فصوتت النساء إلى «أثينا»، وصوّت الرجال إلى «بوسيدون»، فكان الفوز في النهاية إلى النساء لأنهن الأكثر عدداً، فغضب الإله «بوسيدون،، فغطّت المياه المالحة أراضي أثينا، وتولّدت جراء هذا الأمر عقوبات على المرأة عليها أن تلتزم بها، حيث تم تعطيل أي مشروع انتخاب لهن في الزمن القادم، ولن ينتسب إليهن الأولاد بل يكون انتسابهم إلى الرجل وأن يحملوا أسماء آبائهم، والعقوبة الثالثة هي أن لا تحمل النساء لقب الاثينيات، وإنما يقتصر ذلك على الرجال.
هكذا يمتد تاريخ الوجود لخلق نوع من الصراع بين المرأة والرجل، فكأن سبيل الديمومة لا يتوقف إلا عند تأجيج وخلق الصراعات بين الجنس الواحد، مع أن المشاركة الأكثر أهمية في تاريخ الإنسانية لا تستقر إلا بإقامة وحدة هي في الأساس جوهر الانتماء للروح الحية لتاريخ الإنسان قديماً أو للزمن الذي نعيشه، فكيف لنا أن نعي امتدادات التكوين الاجتماعي بعيداً عن العنصر النسائي؟ وهل ثمة قيمة وجودية لممارسة السلطة القمعية على هذا الجنس الشفاف؟
مع أننا نقرأ عن لمسات واضحة وكبيرة أججها الوعي والثقافة في النظام الأمومي عند قدماء المصريين في العهد الفرعوني حفاظاً على سلالة عرش الأسرة الحاكمة، فكان لزواج الفرعون من ابنته أو أخته شأن في تثبيت مكانة المرأة. في البدايات الأولى لا يخفى أن لعقد الزواج بين الاثنين صيغة رائعة تحتوي في داخلها على نمط جمالي من التأسيس المشترك، فها نحن نقرأ في حفريات التاريخ صك زواج يعود تأريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد يقول الزوج فيه: (منذ اليوم، أقرّ لك بجميع الحقوق الزوجية. لن أقول أمام الناس بأنك زوجة لي، بل سأقول بأنني زوج لك. كل ممتلكات بيتك لكِ وحدكِ، وكل ما يأتيني أضعه بين يديك).
الكشوفات التاريخية تعيد لنا صياغة أخرى في مضمون العلاقة الزوجية وفي تثبيت الأسس والدعائم الواسعة للأسرة الواحدة ولمكانة العائلة، إذ بعد ألفي عام من ذلك العقد أو الصك الأول للزواج يتم اكتشاف صك آخر يعود تأريخه إلى فترة ثانية، نرى في الصك ما تقوله المرأة لزوجها: (إذا تركتُكَ في المستقبل لكرهي لكَ أو لمحبتي رجلاً آخر فأنني أتعهد أن أدفع لكَ مكيالين ونصف من الفضة، وأعيد إليك هدايا الزواج). هكذا هي الصيغ التي حملها لنا التاريخ عن عشق المرأة ومكانتها في الوجود الإنساني، فكانت بحق نموذجاً كبيراً وإلماماً شيقاً لقراءة الزمن في صفحة لا تخلو من الحب أو الاستعباد.