عبد الجبار العتابي/
ليس سوى الأطلال، هو ما تبقى من المحلة البغدادية القديمة التي اسمها (المْرَبْعَة)، التي يعود تأريخها الى العصر العباسي والتي مرت بالعديد من المراحل التي أخذت من اشيائها واعطتها غيرها وكانت الى وقت قريب تحفة جميلة تتباهى الكلمات ثناءً في ان تنسكب مطرا ملونا على مساءاتها ونهاراتها، فيما هي الآن (خرابة) كبيرة متداعية، تربك الداخل اليها وقد تحولت الى محال تجارية وورش صناعية، هرب أهلها الحقيقيون منها وظل الفقراء لا مناص لهم سوى البقاء والصبر.
ما عليك وانت تدخل المحلة من أي طريق يؤدي اليها الا ان تقف قليلا وتتأمل الذي لا تراه وانت مغمض العينين، لان ما تراه أمامك لا يشبه المتخيل عن المحلة ان كنت تعرفها منذ السبعينات، ومن ثم عليك ان تمشي بخطى متباطئة في درابينها الضيقة الحلزونية فتشمّ روائحها التي تفوح من جدرانها وخشبها وبطون بيوتها ومن مجرى المياه الصغير في طرقها، وتتألق أمام ناظريك ألوان شبابيكها الخشبية الملونة وغرفها الصغيرة المميزة باشكالها المختلفة والمحلقة في فضاء الدربونة، وان كنت تحفظ شيئا من تأريخ هذه المحلة، سيتناهى الى سمعك في احد أزقتها صوت المطرب يحيى حمدي الذي عاش مراحل طفولته وصباه وشبابه فيها وهو يغني (لو كتلك حبيبي عيني فدوه وي اهل الحسد ابتلي بلوه)، وان مشيت في درابينها ستسمع عزفا على بيانو ينطلق من احد البيوتات فتعرف انه أصابع الفنانة بياتريس اوهانسيان (1927 -2008 ) المولودة هنا، كما سيأتيك صوت حالم فياض (انا من اكولن آه واتذكر ايامي) فتقول آه ايتها المطربة زكية جورج التي سكنت بيوت أحد الأثرياء في هذه المحلة وعاشت فيه ردحا من الزمن، كما يمكن ان تسمع وانت مار من قرب أحد الشبابيك صوت الاذاعي الشهير حافظ القباني(1926- 2004) أو تلتقي احد أحفاد حمودي الوردي، الفنان والباحث التراثي وبالتأكيد سيتذكر لك أحدهم ان المخرج السينمائي صاحب حداد (1939.- 1994) مولود فيها، وسيحكي لك أحدهم عن مجلس الأديب المحقق يعقوب سركيس في داره في محلة المربعة على نهر دجلة التي كان يتردد عليه جمع كثير من العلماء والأدباء والصحفيين والكتاب والباحثين والمهتمين بشؤون التأليف والتصنيف، ولا بد ان يأخذك أحدهم من يدك ليجعلك تقف أمام بيت الروائي غائب طعمة فرمان المولود في هذه المحلة والمتوفى مغتربا في مدينة موسكو، هناك سترى داره الخربة وتأسف ان هذا صار حال (النخلة والجيران)، فالنخلة ما زالت هناك بيد ان الجيران ذهبوا واحيط المكان بالنفايات والأطيان.
محلة المراتب
يعود تأريخ المحلة الى العصر العباسي، وتؤكد المصادر التأريخية انها كانت في الأصل جزءا من محلة اسمها (باب المراتب) التي هي من أبواب دار الخلافة العباسية ببغداد وانها جزء من محلة باب الازج العباسية، تقع جنوبي جامع (السيد سلطان علي) وشمالي محلة السنك، وباب المراتب يقال عنه انه من أجل أبوابها واشرفها وكان حاجبه عظيم القدر ونافذ الأمر.
المْرَبْعَة
وكلمة (المْرَبْعَة) تلفظ بتأثير من اللهجة العامية البغدادية كما يبدو، حيث تم تسكين حرف (اللام) وفتح (الراء) ومن ثم تسكين (الباء) واشتهرت بهذه التسمية التي جاءت نسبة الى وقوعها على تقاطع شارعين نتج عنه شكل (المربع)، ويذكر العارفون ان أصل تسميتها يرجع إلى شكلها المربع بالأبعاد الدقيقة, ويقال (بأن المهندسين لم يعمدوا لإنشائها بهذا الشكل وإنما جاء ذلك مصادفة، ما جعل صفة تربيعها يغدو إسماً لها)، وبالتأكيد مرت عليها السنوات وهي تحمل عناءات توزعها على الناس والحجر والشجر وكان شق شارع الرشيد له تأثير على مساحتها وقد هدم الكثير من بيوتها وحوانيتها وخربت البساتين وفصل منها الجزء الذي على نهر دجلة، لذلك كانت تشتهر فيها شريعة السيد سلطان علي وهي في الجهة الجنوبية منه، وشريعة المربعة أو الملا حمادي وهي أسفل من التي قبلها، وهذه الشرايع لجلب الماء من النهر، وقد تداخلت تسمية محلة سلطان علي بمحلة المربعة حينما عاد العمران ليمتد اليها في القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر الميلادي)، ويمكن الاشارة الى ان عدد نفوس سكان محلة المربعة عام 1917 حسب دفتر مختارها كان (707) نسمات منهم 700 مسلم و7 يهود.
يقول احد سكانها الذي التقيت به: جاءت تسميتها القديمة (المربعة) من الناس حيث كان هذا الجزء يشكل مربعا، فكان الناس يقولون لبعضهم (انك تسكن في المربع، ولانها محلة فقد صارت تعرف عند الناس المْرَبْعَة). مضيفا: كان المسيحيون فيها قلة ومجيئهم اليها من أجل ارزاقهم.
حارة مصرية
والمربعة، من محلاّت بغداد الشهيرة، كائنة خلف سينما الزوراء (الشعب)، التي تربط بين شارع (باب الشيخ – السنك) وشارع (سيد سلطان علي)، تكثر فيها المحال التجارية والفنادق رخيصة الأسعار والمقاهي والمطاعم الشعبية، لكنها كانت هادئة الى حد ما وفي السير في درابينها القصيرة متعة اكتشاف المحلة البغدادية القديمة بكل تضاريسها وروحها البسيطة الشفافة وطيبة اهلها. كان ذلك الهدوء قبل ان يستوطنها المصريون الذين قدموا من أجل العمل الى العراق في سبعينات القرن الماضي وبداية ثمانيناته.
أسماء ومسميات
في ذاكرة المربعة تحتشد الأسماء التي يتقطر الأسى مع ذكرها لانها غابت وتحولت الى لا شيء، هناك في شارع الرشيد منها تستذكر المقهى السويسرية والمقهى البرازيلية التي كانت ملتقى الأدباء والفنانين، وبقربها ملهى الفارابي الذي كان المكان المفضل للعديد من المطربات العربيات وقد تم تهديمه لتقوم على أرضه دار سينما (سينما برود واي) التي صار اسمها فيما بعد علاء الدين الشتوي التي احترقت وبنيت عمارة بدلها فيما تقع على الجهة اليسرى من الشارع سينما الزوراء (الشعب) التي غنى على مسرحها عبد الحليم حافظ عام 1963، فيما تقابلها مقهى المربعة الجميلة التي اغتيلت وتحولت الى محل تجاري لبيع المعدات والعدد اليدوية، وهناك على ضفة نهر دجلة كان يقوم (أوتيل ميتروبول) الذي تبدل إسمه لاحقا إلى (ملهى ليالي الصفا) في عام 1932، كما يمكنك ان تسمع اسم (دكان البهبهاني الإيراني) الذي كان يبيع أحسن أنواع الفستق والبندق واللوز وبقية المكسرات وتسمع ايضا عن (محال أسواق الأرمن) لبيع البسطرمة والكيك واللبن الرائب وكذلك تسمع عن (القصر) العائد للأرمني البغدادي (سركيسيان) الذي أصبح فيما بعد (ملهى)، وهناك لابد ان ترى أوروزدي باك الرشيد، الذي يعيش حاليا اسوأ ايامه، وبجواره جامع سيد سلطان علي الذي سميت محلة بأسمه.
ألم وحسرة
التقيت هناك عدنان ابو ياسر، الذي يسكن المحلة منذ خمسين عاما، واستذكر لي الكثير من المعالم وتحسر وتأسف لواقعها الحالي، فقال: يحدد المربعة شارع الجمهورية ومحلة الحاج فتحي والسنك والسيد سلطان علي، اغلب ناسها القدامى تركوها لان بيوتها اصبحت متهالكة بيتا يتكيء على بيت.
واضاف: فتحت عيني على الدنيا وجدت المسيحيين يمثلون اكثر من ثلاثة ارباع أهلها، لكنهم غادروها الا القليل منهم، المصريون عندما جاءوا اليها كانت تبقى ساهرة حتى الصباح لانهم كانوا ينامون في النهار.
غيرتها الأزمنة
لكن المحلة تغيرت تماما، لم تعد ترسم الدهشة ولا تنتج المتعة ولا تشير الى ما تحفظه الذاكرة عنها، هي الان حسب الترقيم الجديد تحمل اسم (الرشيد / محلة 104)، فيما درابينها تنزّ خوفا تارة من الدور المهجورة أو الحيطان المتورمة بطونها أو الآيلة للسقوط والرطوبة تغطيها، فالمنظر يرهق الناظر ويشتد الآسى حينما تعتقد ان المحلة من دون ناس الا حين تتفاجأ بصرير باب او حركة طفل على عتبة الدار، فكل شناشيلها في الغرفة العلوية متهالكة وكل ابوابها وشبابيكها ونقوشاتها تشكو الضرر الكبير، والاسوأ انها تحولت الى ورش صناعية ومحال تجارية لباعة العدد اليدوية المختلفة حتى تحول الشارع الذي بظهر شارع الرشيد الى دكاكين لهذه العدد وبيع وشراء وتصليح المضخات بانواعها وامتدت الى الدرابين وبعض الطرقات الفرعية فألغيت الدور السكنية وازداد الصخب وعمت الفوضى وازيلت الدهشة التي كانت، وهذا الغزو بدأ منذ اواسط الثمانينات وتحولت الى مكب للنفايات ومحال لتفصيخ السيارات وبيع ادواتها الاحتياطية ايضا، فيما غابت سينما الزوراء (الشعب) التي تعد بنايتها تحفة فنية. وحسب المعلومات التي حصلنا عليها من الناس فإن عدد البيوت المشغولة حاليا لا يتعدى 60 بيتا، وان اغلب هذه البيوت مؤجرة وهناك بيوت متروكة على خرابها. كما علمنا ان هناك نحو 150 بيتا آيلا للسقوط.
الطريف الذي سمعته هناك عن مقترح لقص المحلة في زمن عبد الكريم قاسم على اساس ان يكون المترو ولكن لم يتحقق وظل الكثير من الناس على هذا الأمل طوال سنوات.
وفي المحلة هناك جامع على شكل بيت، يسمونه (جامع حمادي) وهناك مرقد السيد ابو الطيب طاهر الموسوي حفيد الأمام موسى الكاظم (ع)، وقيل ان المرقد ما كان معلنا عنه قبل 2003 لأسباب تتعلق بالنظام السابق.