عبد الجبار العتابي – تصوير: صباح الامارة
محل الأنتيكات الآيل للسقوط كان مسرحاً كبيراً تنبعث منه الموسيقى والحياة ويمضي البغداديون فيه سهراتهم الجميلة، ربما هو اقدم مركز ترفيهي آنذاك.
يمكنك أن تتأمل المكان، تنظر الى الماضي تحت، أمام، بقايا ذلك المسرح الباذخ بهيبته، موقعه يشدّك وتاريخه ونشاطاته وشهرته والناس الذين يرتادونه ويحيطون به.
أغمض عينيّ فأسمع أصداء الأصوات والموسيقى تهرع اليّ من عمق المكان وهي تشكل تاريخاً وتراثاً عبقاً برائحته البغدادية القديمة.
حين أحدّق في طابقه العلوي أجده مرعباً، اتراجع على الفور منه، فهو في أسوأ أحواله، مهدم، محطم، مخرب وسيتهاوى في اية لحظة، لا ابواب فيه ولا شبابيك ولا حتى الزجاج الملون الذي يلتمع في فضائه، انه مجرد خشب ما زال يحاول الاحتفاظ بما في نفسه من شناشيل ومشبك حديدي صدئ، وكله يلوح للناس انه تراثهم الذي كان في يوم ما موئلاً للكثيرين منهم وسكناً لائقاً بهم وسروراً لهم، بل يريد ان يقول إنه شاهدٌ على ذلك العصر الذي عاش الناس فيه وسط ضغوطات كبيرة من اهمها الحرب العالمية الاولى (1914- 1918)، فكان وجوده من ضرورات الحياة لفك تلك الضغوطات بهذا (اللهو) البريء الذي لا يشبهه آنذاك ولا ينافسه إلا سباقات الخيل.
إنه آيل للسقوط حاليا، تحركه الرياح على ما تشتهي، وتحمّله الظروف المناخية ما لا يستطيع، وتحته الكثير من الناس ما زالوا يمرون منه ويتوقفون ويعرضون ما تيسر لهم من بضاعة بسيطة للبيع تحت ظلاله، باعة أطعمة وشاي وخردة على الارض، وعلى عربات صغيرة كأنهم مطمئنون الى انه صديقهم الذي يمتلك قدرة على التماسك نهاراً، وربما حين تنظره من الجهة الجانبية تشعره يريد أن يطير او انه يعلن بحركة اكروباتيكية انه يحتفظ بكبريائه على الرغم من ضياع مكانته (فندقاً ومسرحاً وملهى)، وقد كان اسماً معروفاً لعامة البغداديين وانشئت بجانبه مطاعم ومحال معروفة.
أوتيل ..في الميدان
يقع المسرح / الفندق في منطقة الميدان في الربع الشمالي من شارع الرشيد، مجاوراً لسوق هرج الذي يمتد خلفه، كان المسرح في (الاوتيل) الذي هو تعريب لاسم هوتيل hotel الانكليزي. وعلى الرغم من ان انفتاحاً حصل على اللهو والملاهي والموسيقى ووسائل الترفيه في بغداد بعد عام 1908، حيث اعلن الدستور العثماني عن اعطاء حريات نسبية للمجتمعات والجماعات الدينية والقومية التي كانت تحت الحكم العثماني، ورفع قيوداً كثيرة كانت مفروضة على الصحافة والأنشطة الاجتماعية، فظهرت الملاهي والمراقص والجوقات الموسيقية، إلا أن التحول اللافت للنظر ان العديد من المقاهي تحوّل الى ملاه ليلية (تياترو)، كان ذلك بعد الاحتلال البريطاني الذي سمح بالكثير مما كان محظورا أيام العثمانيين، وصار البغداديون متلهفين لحضور تلك الليالي الحافلة بالرقص والغناء والموسيقى، وكثرت الراقصات اللواتي راح الكثير من البغداديين يتزاحمون عليهن وعلى حضور عروضهن بعد أن كانت حفلات الرقص يؤديها غلمان (ذكور) يتجملون وهم يلبسون ملابس النساء ويتشبهون بهن مثلما كان الحال في حفلات الرقص في مقهى عزاوي ومقهى سبع في الميدان.
أم كلثوم تغني على مسرحه
حين واتت فكرة دعوة المطربة ام كلثوم الى بغداد من قبل صاحب اوتيل الهلال، بعد ان ذاعت شهرتها في عموم الدول العربية، وكان الاستماع إليها يتم من خلال جهاز(الحاكي)، أبدى شخص اسمه (جلال أفندي سامي المحامي) وزوجته المصرية استعدادهما لمساعدته بالسفر معه الى مصر للاتفاق مع ام كلثوم، وبالفعل سافروا ومكثوا هناك نحو شهر ثم عادوا، وحلّت ام كلثوم ضيفة مكرّمة هي وفرقتها الموسيقية، التي كان على رأسها الفنان محمد القصبجي، وابراهيم العريان، صاحب الكمان، وكريم، وسعد جرجيس صاحب الناي وغيرهم، واستمرت زيارتها شهراً واحداً أحيت خلالها عدة حفلات على صالة (ملهى الهلال)، ويومها اكتظ المكان بالناس حتى عجز عن استيعاب الحضور، فاستعان أصحابه بالساحة خارج الاوتيل مع نصب مكبرات خارجية للصوت. وحينما بدأت أم كلثوم غناءها تدافع الناس على المسرح المذكور لسماع أغنياتها وصوتها، ومنهم من جلس خارج المسرح على رصيف الشارع (شارع الرشيد)، وحضرت الحفل العوائل البغدادية وبعض المسؤولين في الحكومة.
واذ كان الاحتفاء بـ (الآنسة) ام كلثوم مميزاً، فقد نشرت ادارة اوتيل الهلال اعلانا في جريدة الاستقلال بعددها 1735 الصادر في 8 تشرين الثاني 1932 عن موعد الافتتاح لأول حفلة من حفلاتها وهو (الافتتاح العظيم لأول حفلة): الافتتاح الأول من حفلات الآنسة في اوتيل الهلال سيكون يوم 17 تشرين الثاني 1932، ستباع بطاقات الحفلة في شباك الاوتيل، اسعار البطاقات: موقع ممتاز في صحن الصالة 500 فلس، موقع ممتاز في البالكون 500 فلس، موقع اول في صحن الصالة 350 فلسا، موقع ثانٍ في صحن الصالة 250 فلساً، جميع الكراسي منمرة وعلى عدد البطاقات، وقد خصص بالكون منفرد عن باقي البالكوانت وبمدخل خاص للسيدات فقط مؤكدة (هلموا الى اقتناء البطاقات ولاتضيعوا الفرصة)، كما نشرت نفس الجريدة في عددها 1764 في 12كانون الاول 1932 الاعلان التالي عن حفلات الوداع (حفلات الوداع 12 كانون الاول 1932 / الآنسة ام كلثوم تحيي حفلات الوداع على مرسح اوتيل الهلال بعد ظهر الثلاثاء، حفلة خاصة للسيدات على مرسح سينما سنترال، الموقع الاول 300 فلس، الموقع الثاني 250 فلسا، الموقع الثالث 150 فلسا، اللوج باربعة كراسي بدينارين).
المطربة نادرة
واستضاف مسرح فندق الهلال عام 1934 المطربة المصرية نادرة (1906 – 1990)، وانتشرت لها اعلانات مثل (اميرة الطرب نادرة ألم تسمعها بعد؟ ان شدو البلابل لا يغنيك عن صوتها الساحر فلا تتوهم. فهيا.. هيا الى اوتيل الهلال). ومن الطريف انها تحدثت لإحدى المجلات المصرية عن الحفلات الغنائية التي أقامتها في العراق وتجاوزت اثنتي عشرة حفلة، تقول نادرة: “قبل رحيلي إلى العراق كنت متألمة من حرارة الصيف في مصر.. فرغبت في الهجرة إلى بلد آخر هرباً من الحر.. فلما جاء متعهد الحفلات في العراق للاتفاق معي سألته عن حالة الجو هناك فطمأنني من هذه الناحية.. ولكنني حين وصلت إلى بغداد شعرت بحرارة الجو القاسية التي لا يحتملها الإنسان.” وتكمل: “وفي اليوم الأول لوصولي إلى بغداد أبلغوني أنهم سيهيئون لي مكاناً في أعلى الفندق (السطوح).. فضايقني ذلك، فقلت: “وهل من اللائق بي وبكرامتي أن أنام على السطوح؟ ألا توجد في الفندق غرفة أنام فيها؟ فلما سمعوا ذلك انتقوا أحسن غرفة في الفندق وقادوني إليها. وأدرت المروحة التي في الغرفة وأحضرت زجاجتين مملوءتين بماء مثلج واحتضنتهما. إلا أن ذلك لم يلطف من حرارة الجو. وفي اليوم التالي طلبت أن يفرشوا لي (مرتبة) في أي مكان عالٍ.”
ونادرة هي اول من غنى أغنية “يقولون ليلى في العراق مريضة فيا ليتني كنت الطبيب المداويا” وقد لحنتها “نادرة” نفسها.
الهوزوز وصالح الكويتي
ومن المطربات اللواتي عملن في (الهلال) المطربة (منيرة الهوزوز ) ،وهي اول من غنت الأغنية الشعبية (الهوزوز) حتى لصقت باسمها بدلا من اسمها الحقيقي (منيرة عبد الرحمن)، وقد بدأت بالغناء في ملهى الهلال سنةَ ١٩٢٨ حتى ١٩٤٠.
كما عمل في الفندق الموسيقيان الأخوان صالح وداود الكويتي بعد الاتفاق مع المطربة سليمة مراد على الاشتغال معها في الملهى الذي كانت تعمل فيه. وكان إقبال الجمهور عظيما. ولحن لها صالح بعض الأغاني للشاعر عبد الكريم العلاف منها (هوة البلاني) و(آه يا سليمة) و(كلبك صخر جلمود) و(خدري الجاي). ولقيت الأغاني اقبالاً منقطع النظير من قبل الجمهور المتعطش لمثل هذه الأغاني التي تمازجت مع قلوب نفوس افراد الشعب. ومن طريف ما يذكر ان أم كلثوم اعجبتها اغنية (كلبك صخر جلمود) وطلبت من ملحنها صالح الكويتي مصاحبتها في الحفل الذي أقامته على مسرح ملهى الهلال .
الرصافي والزهاوي
في هذا المسرح، وفي ليلة افتتاح حفل ام كلثوم القى الشاعر جميل صدقي الزّهاوي(1863- 1936) قصيدة قال فيها :(حملت ما يعجز الفتيان محمله وما ابن عشرين فهو لابن سبعينا)، كما القى معروف الرصافي(1875 – 1945) قصيدة في فندق الهلال قال فيها: اسمعي لي قبل الرحيل كلاما ودعيني اموت فيك غراما /هاك صبري خذيه تذكرة لي وامنحي جسمي الضنى و السقاما).