عبد الجبار العتابي/
للمكان.. تسميتان متلازمتان شهيرتان: براثا و (المنطكة) بـ (الكاف الأعجمية) لكن الثانية أكثر شهرة من الأولى عند العامة، وبقدر المعلن عنه من أنه (جامع/ مسجد) لكنه في حقيقته (مزار) تحول الى مؤسسة دينية خلال السنوات الأخيرة بالرغم من أن بناء العديد من منشآته لم تكتمل لأسباب مادية، هذا المزار أخذ مكانته المقدسة من توقف الإمام علي بن أبي طالب (ع) عنده لما رجع من معركة النهروان وأدائه الصلاة فيه.
قد لايعجب الناظر منظر المزار من الخارج بسبب الكتل الكونكريتية التي تحجب واجهته تماما ومساحات من محيطه، وقد لا يعجب الداخل اليه مشهد البناء غير المكتمل الذي قد يصيبه بالخيبة، إلا أن الوصول الى الباحة الوسطية التي هي مركز المكان سيعجبه كل شيء هناك وترتسم على ملامح وجهه لوحات دهشة وسرور ولهفة للتجوال في كل الأنحاء والدخول الى الأمكنة هناك جميعها، وشغف لقراءة كل المكتوب للتوضيح ومعاينة الأشياء بوضوح ويتلمسها بأصابعه للذهاب الى عمق التاريخ والذكرى وتأمل كل ما تقع عليه عيناه لانه يعلم أن الدهشة سترافقه والمسرة ستربّت على أكتاف قلبه لأن المشاعر ستتفتح في مكنوناته مثل زهرة ندية خاصة اذا ما وقف قبالة أشياء متفردة في وجودها وزاهرة في حضورها وتملكت نفسه قدسية الأشياء التي يراها وهو يقرأ تلك التفاصيل المذهلة من الحكايات التي يزخر بها المكان او حتى حينما يتعرف على المستجدات من الحكايات العجيبة.
موقع المزار
يقع مزار براثا في بغداد، على جانب الكرخ في منطقة الشالجية ضمن المحلة رقم 403 ضمن التصنيف الجديد لأمانة بغداد حاليا، على مقربة من العطيفية وعلى مسافة جنوبية ليست بعيدة عن مدينة الكاظمية.
وتؤكد العديد من المصادر أن (براثَا قرية قديمة كانت في موضعها الحالي قبل إنشاء مدينة بغداد، واسم بَرَاثَا من اللغة الآرامية (برثيا) ومعناه: الخارج، ولهذا الموضع شهرة قبل الإسلام واشتهر في العهد العباسي أيضاً لوقوع الجامع فيه، وأن القرية أندمجت في بغداد، وأن الجامع هدم في عهد المقتدر العباسي (295- 320) تعصباً ثم أعيد بناؤه في زمن الخليفة الراضي سنة 329، وأقيمت فيه الخطبة الى ما بعد سنة 450، ثم قطعت منه وخرب. والظاهر أنه بقيت بقاياه ألى أواخر القرن السابع الهجري وجاوزته) ويقول ياقوت الحموي المتوفي سنة 629عن بَرَاثَا ما يأتي: محلة في طرف بغداد في قبلة الكرخ وجنوبي باب محول. وكان لها جامع مفرد تصلي فيه الشيعة وقد خرب عن اخره، وكذلك المحلة لم يبق لها أثر. فأما الجامع فأدركت أنا بقايا من حيطانه) ،الاسم الأول (براثا) كما تؤكد المصادر التاريخية هو في الأصل اسم باني الدير في المكان نفسه ومعنى براثا بالسريانية (ابن العجائب) وفي اللغة العربية تعني (الأرض الرخوة الحمراء)، اما اسم (المنطّكَة) بتشديد الطاء وبالكاف الأعجمية، فهو مأخوذ من مفردة (النطق) وقد اشتهر ماء البئر هناك لمعالجته الأطفال الذين يتأخر النطق لديهم، بالرغم من العامة من الناس يسمونها (المنطكة/ المنطقة) بـ (بفتح الطاء والقاف) ويطلقون عليها (منطكَة علي) ويبدو أن هذه التسمية مستحدثة ابتكرها الناس لاعطاء المكان قدسية أكثر، واشتهر اسم (المنطّكَة) حيث (تقوم النساء بأخذ قليل من ماء البئر ويضعنه على تجويف موجود في تلك الصخرة ويشربه الأطفال وحسب الرواية تقول الأم (يامنطّقة نطقيه)، وقد أكد العديد من الأشخاص أنهم شاهدوا الكثير من الأطفال ينطقون ببركة أمير المؤمنين وبإذن الله تعالى، بل أن أحدهم أخبرني بثقة أن مجندة أميركية جاءت الى المزار بعد أن سمعت عنه واخذت 25 لترا من ماء البئر، ويوضح هذا الشخص: علمناها الطريقة التي تستخدم فيها الماء، وبعد نحو فترة جاءت الى المزار واعلنت إسلامها فيه وهي تقول لقد انجبت طفلين اسميتهما محمد وعلي ببركة هذا الماء.
محتويات المزار
يحتوي المزار على العديد من الأشياء منها: حرم للصلاة ترتفع في أعلاه مئذنتان بنيتا سنة 1375 هـ، كما يضم مكتبة قديمة تحتوي على الاف الكتب المختلفة ويزورها على الدوام طلبة الدراسات العليا، كما هناك مكتبة صغيرة داخل حرم الصلاة تحتوي على عشرات العناوين باللغتين العربية والفارسية، ويحتوي المزار على بئر تعرف باسم بئر الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) بعمق 14 مترا ومنها يسحب الماء الى جهاز تبريد يشرب منها الناس، والماء في البئر يتأثر بارتفاع وانخفاض منسوب المياه في نهر دجلة، وهناك الصخرتان الشهيرتان تسمى الأولى صخرة التنطيق وهي صخرة سوداء ملساء موجودة في باحة المكان، والصخرة الثانية البيضاء التي انزلت السيدة مريم نبية الله عيسى عليها من عاتقها، ويضم المزار أيضا (مركز امام المتقين) لتعليم القرآن الكريم للنساء والرجال، وكذلك جمعية براثا الخيرية (ذات النفع العام) ومؤسسة أحباب الصديقة الطاهرة (ع) للتبليغ الاسلامي، فضلا عن مقبرة قديمة تضم رفات العلامة الدكتور علي الوردي، لكن هذه المقبرة توقفت عن استقبال الراحلين عن الدنيا، وهناك مقبرة أخرى على يسار المزار تم الغاؤها بعد تبليغ أهالي المدفونين فيها لتكون قاعة كبيرة تحمل اسم (الحسنين) لكن المثير في الأمر أن امرأة لابنها قبر في المكان وظلت تأتي لزيارته على الدوام حتى بعد بناء القاعة فهي تقول أنها تعرف مكانه بالضبط.
بئر الإمام علي (ع)
في المزار هناك عدد من الكتابات التوضيحية المقتبسة من العلامة الدكتور حسين محفوظ/ منها ما يتعلق بـ (بئر الإمام علي)، حيث كتب عنها (نزل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام منطقة براثا لما رجع من النهروان سنة 37 هـ وكان بها راهب في صومعته اسمه الخباب، وكان الراهب يشرب من دجلة، وكلما حفر بئرا وجدها مالحة غير عذبة، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: احفر هاهنا بئرا، فحفر، فخرجت صخرة لم يستطيعوا قلعها فركلها علي عليه السلام برجله فقلعها، فانقلعت عن عين خرارة أحلى من الشهد وألذ من الزبد), ويؤكد العلامة محفوظ (بئر علي، بئر مقدسة في هذا الموضع المقدس، وهو مزار مبارك، يزور الناس مسجد براثا ويعظمونه ويقصدون البئر يستشفون لديها، منذ القدم يشربون منها ويتداوون بمائها من الأمراض والعلل والأسقام ويستطبون به من كل داء باذن ربهم عز وجل).
الحجارة المنطّقة
حجارة سوداء صماء، فيها نقرة، من بقايا حجارة المنطقة القديمة، والمنطقة هي العتيقة، أي جامع براثا القديم، باعتباره أول مسجد صلى فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، اقام في بغداد القديمة سنة 37 للهجرة قبل بناء مدينة السلام بغداد بقرن وثمانية أعوام، والناس يعتقدون بهذا الحجر منذ القديم، يصب الماء في النقرة فيسقاه الطفل لكي ينطق ويحلل عقدة لسانه، وقد سمعت احدى النسوة تقول للطفل قل (يا منطقة نطقيني) وتكرر هذا.
حجر براثا
قطعة من حجارة قديمة تحمل نقوشا ناتئة ومحفورة، تعود الى ما قبل الإسلام تؤكد قدمية المعبد وتوثق المنقول المأثور عن أولية جامع براثا، وقد نقرت في جانبي النقش بالخط البارز اسماء المعصومين الأربعة عشر: محمد رسول الله (ص) وفاطمة الزهراء (ع) والائمة الاثني عشر عليهم السلام، وهذا الحجر المبارك القديم النفيس من الاثار الباقية عن القرون الماضية وهو من بقايا المعبد القديم والمسجد الجامع العتيق وهو من الذخائر النفائس وهو من الشواهد المباركة والاثار المهمة، وهذه الصخرة يضاء وقد نقشت عليها عبارة (محمد المصطفى وعلي المرتضى وفاطمة الزهراء) وفي اعلاها هناك صليب رسم في أعلى الصخرة، و(هي الصخرة التي جاء في الروايات أن الإمام علي (عليه السلام) أشار اليها وقال (على هذه الصخرة وضعت مريم عيسى من على عاتقها) وكان (عليه السلام) قد وضعها أمامه وصلى ركعتين شكراً لله على نصره وعلى وصوله الى هذا المكان).
حكايات شيقة
في المزار.. هناك الكثير من الحكايات الشيقة، فمثلا ..هذا المزار ينفرد بخاصية عجيبة عن باقي المزارات وهي أنه يمتلك عددا كبيرا من (المسبحات) على اختلاف ألوانها وأشكالها، وهي معلقة في مكان واضح للعيان داخل حرم الصلاة وجلها من تبرعات الزائرين (للثواب)، ولهذه طقوس معينة لتحقيق (المراد) وهي أن كل امرأة تمسك المسبحة عليها أن تدور بين النسوة هناك وكل واحدة منهن تحرك حبة واحدة وهي تقول (قل هو الله احد) حتى تكتمل حبات المسبحة الـ (101) حبة، اما أكثر أيام الزيارة للمزار زخما هي أيام الأربعاء (لسبب غير معروف عند الذين سألتهم عنه) وفي يوم الجمعة وكذلك أيام العطل المدرسية وكذلك في آخر يوم أربعاء من شهر صفر حيث يقوم النساء بنزع الملابس السود هناك، وطالما تكون النساء والأطفال أكثر من الرجال (لسبب غير معروف أيضا، سوى أن النسوة يأتين بأطفالهن للتبرك بماء البئر تحديدا) .
ويتميز المزار بكونه يستقبل الزوار الأجانب أيام أربعينية الإمام الحسين (ع) ممن يزورون العتبة الكاظمية المقدسة وليس لهم مبيت، ويستمر هذا الاستقبال لمدة 14 يوما، وأكد بعضهم في المزار أن عدد الزوار يكون ما بين 3- 4 الاف زائر خلال هذه المدة، والعجيب في هذا أن الطعام والشراب لهم تتكفل به ادارة مزار براثا.