هدى الهرمي /
تُشّكل قضايا المرأة في العالم محوراً ستراتيجياً وحقوقياً مُتعدّد الاهتمامات والطروحات، اذ يُنظر لقضيّتها بعين التوجس والآيديولوجيات التي تعتمدها شتى المجتمعات لتعكس سلوكيات الدول وشعوبها في جوانب الحياة المختلفة.
وليست قضية المرأة في البند العالمي مجرّد محاضرات اكاديمية او دراسات بحثية او موضوعات تنموية، او حتى سلسلة من الرؤى تجاه جنس ما، انما هي أساس وركيزة بدرجة اولى تطرقت اليها الأحكام الدولية او المجتمعية.
وقد ظهرت مصطلحات عديدة في طرح موضوع المرأة منها: مشكلة المرأة، ازمة المراة، اشكالية المرأة وقضية المرأة، لكن تظل قضية المراة في جوهرها انسانية ومجتمعية.
فما هي التحديات التي تواجه جهود تمكين المرأة من حقوقها واندماجها الكامل في المجتمع وما سقف الطموحات التي تسعى المراة العربية لتحقيقها في ظل القوانين والثقافة المُجتعية السائدة وايضا في ظل المُستجدات العالمية، وكيف استغلت الأنظمة القمعية والتنظيمات المتطرفة مشكلات المرأة ولاسيما تنظيم”داعش” الارهابي؟
الراكد والموروث
قضايا المرأة بين الموروث الراكد والطرح الوافد
هناك من تناول قضية المرأة كعنصر مستقلّ عن باقي المجتمع، لكنها تظلّ اشكاليّة تاريخية، تضرب جذورها عميقاً في حياة البشرية التي ظهر فيها مبدأ الملكية الخاصة ليطفو معها الاستلاب واستغلال الانسان للانسان ككل.
وإن تأملنا و أمعنّا النظر جيدا، أدركنا أن معاناة المرأة في العالم، انما هي جزء من معاناة مجتمعات بأسرها، فما الرجل والمرأة الا صورتان لموضوع واحد وهو الانسان.
انّ انواعاً من الظلم الاجتماعي والاقتصادي قد وقعت على كاهل الرجل كما هو على كاهل المرأة، لكن الاخيرة قد عانت اكثر من واقع التهميش والاستغلال ، فهي تعاني الاقصاء وتراكم الكثير من الجرائم الفردية والمُجتمعية فوق كاهلها، كما تتعرّض أيضا الى العنف و النظرة الدٌونيّة في الأسرة نفسها، والذي يتفجرّ اكثر لأسباب اقتصادية واجتماعية.
ومن أهمّ ظواهر هذا الظلم المُسلّط عليها، الأميّة والبطالة والعنف الاسري، وعدم المساواة، وهنّ اقصى الكوارث الاجتماعية التي تصيب المرأة وتمنعها لأجيال كثيرة من التطّور التي تطمح اليه، اضافة الى التمتّع بحقوقها في ظلّ قوانين عادلة.
ولم يكن وضع المراة العربية مختلفاً عما كان عليه في مناطق اخرى من العالم، حيث مرّ هذا الوضع عبر التاريخ بمراحل من التمييز، ما أدّى الى خضوعها لقيود على حقوقها وحريّاتها، والعديد منها يرجع الى الموروث الثقافي والمعتقدات الدينية المُتعصبّة، رغم انّ الاسلام ركّز في جميع تعاليمه وأحكامه على رفعة المراة وتعزيز مكانتها، وكان اهتمام الإسلام بالمرأة سبّاقاً و نوعيّاً.
لكن العقبة الأكبر كانت في القمع الذكوري للمراة، ويعتبر البعض انّ المرأة نفسها، قد ساهمت في الترويج لذلك. وفي هذا الصدد تقول د.جمان هردي الباحثة في قضايا المراة “ان المرأة تتبنّى رؤية قامعها وتتحوّل الى و كيلة للنظام الابوي وتقوم بضبط النساء الاخريات ليُطعن النظام العام”.
وقد حددّت منظمة الأمم المتحدة عام 2030 سنة لمناصفة كوكب الأرض ما بين الجنسين، وهي مُهمّة قدّرها البعض انها صعبة للغاية وتحتاج الى الكثير من الجهود للقضاء على انواع كثيرة من الاستغلال والتمييز والعنف، خاصة في ظلّ المُستجّدات التي مرّ بها العالم العربي والسُلوكيّات الوافدة من بؤر الحروب والتطاحن السياسي في المنطقة التي طالتها بما يسمى الربيع العربي.. فأية رؤية جديدة لوضع المرأة العربية وهل تُعدّ قادرة على احداث وجود فعّال ومُغاير؟ !
الرؤية جديدة
يذكر مساعد الأمين العام للأمم المتحدة كيفن كندي ان هناك سبعة ملايين امراة سوريّة يقُمن بإعالة أسرهنّ لكنهنّ يتعرّضن للعنف و يحتجن للمساعدة. امّا الناشطة السعودية د.هيفاء الحبالي فتقول “نحن نطالب بقوانين لمكافحة التحرّش بالمرأة و الطفل ايضا” ، و تقول الناشطة السورية الكندية عفراء حلبي “إن الأزمة السورية جعلت المرأة عرضة للاختفاء القسري والقتل والتهجير.” و تُضيف أيضا “لا يزال الوعي الفكري والديني والثقافي في المنطقة ضحلاً لا يتغيّر وان التوجّه الإقصائي نحو المرأة مازال موجودا .”
اما في العراق، فتؤكد الناشطة هناء أدور، سكرتيرة جمعية أمل، أن ازدياد حالات الطلاق في تزايد و يعود سببها الى فقدان الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي. وقد عانت العراقيات بمختلف الطوائف ويلات الحرب، من اعتداءات جنسية وجسدية ارتكبتها قوى الارهاب و أصبح البعض منهنّ سبايا تحت سقف ما يُسمّى بداعش ولم تسلم من قبضته الى الان، اضافة الى اغتيالات متكرّرة بحق نساء رائدات في شتى المجالات الفكريّة والثقافيّة والفنّية خصوصا في الحقبة الأخيرة.
لقد اضحت المرأة العربية، في هذه المرحلة الجديدة، مُهمشة اكثر فكريّا ومُستغلة جسديّا، وتعاني الأمرّين في ظل التوتّر القائم و النزاعات القومية، وبسبب التطرّف الديني الزاحف بقوة، لتتراكم أبشع الجرائم الفردية والمُجتمعية فوق كاهلها، اضافة الى الزجّ بها (مُرغمة او مقتنعة) في الانتهاكات الانسانية وارتكاب جرائم ارهابية بسبب التشويه الحاصل في الشقّ العقائدي.
وفي ظلّ ما يسمى بالربيع العربي، انقادت المراة بكل ثقلها في الثورات، مُشاركة في الاعتصامات والمُظاهرات ومُحمّلة بطموحات عديدة، وتطلّعات للاندماج الكليّ في المجتمع المدني والسياسي، وبرغبة جامحة في ان تكون مساهمة فعّالة في الحياة المجتمعية و التنمية، دون عوائق تحدّ من حريتها في القرار. لكنّها لم تجنِ ثمار نضالها بحجم التوقُعات والرّهانات، وذلك مُنذ الاستعمار الأجنبي و الى حدّ السّاعة في ظلّ الانظمة العربية الجديدة والمُستنسخة.
لكن يعتقد الكثير ان الاستثناء الوحيد في مسار حقوق المراة العربية يُحتسب للمرأة التونسية، ولنا ان نتساءل ايّ واقع تعيشه في خضم التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة؟
المرأة التونسية نموذجاً
إن تاريخ تونس حافل بالنساء المُناضلات دفاعا عن الوطن بادئ الأمر، وعن حقوق المرأة والأسرة والمجتمع، وكانت مساهمتهنّ فاعلة ومُهمة في الشأن العام، بما فيها مناهضة المُستعمر وسعياً لاستقلال البلاد ايضا، ومن بين الاسماء بشيرة بن مراد التي ساهمت في رسم مستقبل المرأة المُشرّف منذ بدايات القرن الماضي، وعزيزة عثمانة في العمل الخيري، وعدّة نماذج اخرى استطاعت ان تقف بالمرصاد للجهل والاميّة والتمييز. كما ساندها بعض من روّاد الفكر التنويري والنقابي لتطوير المجتمع، واهمهّم المُفكرّ والسياسي و النقابي الطاهر الحداد صاحب كتاب (امراتنا في الشريعة و المجتمع ).
وكان للمراة التونسية وجود فعّال على جميع الصعد وفي المدى القريب نذكر ميّ الجريبي وسامية عبّو وفضيلة الشابي والباحثة د.ألفة بن يوسف التي تُصنّف من الجيل التونسي الجديد المُثقف والرمز لحريّة المرأة، ومن مؤلفاتها ( نساء و ذاكرة) وقد اعتمدت على منهج التاريخ الشفوي وشهادات لنساء تونسيات شهيرات في مجالات مُتعددة مطلع القرن العشرين.
وبعد 58 عاما على سنّ مجلة الأحوال الشخصية بما تُمثّله من دستور مدني اعتبره العديد ثورة في التشريع والمجتمع قادها الزعيم بورقيبة، وحققت المراة من خلالها مكاسب متنوعة، لكن هذا لم يمنع من وجود فئات نسوية مُهمشة ومضطهدة، وقد انقسم المجتمع التونسي بين فئة مُثقفة ومُنفتحة طغت عليها طموحات المساواة في الشغل والشأن العامّ مع الرجل ومَعنيّة بالتكافؤ الحقيقي للفرص و المناصب حتى السياسية منها، لكن ظلّت فئة نسويّة اخرى فاقدة لهاته الحقوق ومحرومة من أبسط مُقومات العيش الكريم، ممّا يزيد في هوّة المساواة بين المرأة والاخرى، اضافة الى المساواة بين المراة والرجل.
و لئن تطوّر مسار حقوق المراة التونسية واتبّع منحىً ايجابياً في مجمله منذ الاستقلال، لكنه أيضا سار في عدة انحرافات خطيرة هددّت في عديد الحالات الخليّة الأساسية في المجتمع وهي الأسرة، عبر انتشار ظاهرة الطلاق ونسبة الجريمة ومطبّات لا أخلاقية.
ولا نقدر الا ان نُعرّج ايضا على قضيّة أساسية بدأت تفتِك بالمراة التونسية وتتوغّل خصوصا في فئة من القاصرات غير الواعيات لسهولة استقطابها، وذلك بتسفيرهّن الى بؤر التوتر والزجّ بهنّ في صراعات اقليميّة، ضمن الانتماء الى الجماعات الارهابية المُتطرفة واستغلالهنّ في نشر ثقافة الموت وايضا في (جهاد النكاح) هذا المُصطلح الغريب حتى عن التشريع الاسلامي.
اذن، فواقع المراة في تونس ليس أفضل حالا من نظيراتها في المُجتمعات العربية رغم ( تفوّقها) عليهن في الحقوق التي استندت الى مجلة الأحوال الشخصيّة. لكن تظلّ هناك بعض التجاوزات والانتهاكات في حقّها خاصة عند التأمل والبحث في واقع بعيد عن التشريعات، ليُحيلنا الى العنف الجسدي والنفسي والاقتصادي الذي تتعرّض له.
المكاسب والرهانات
لكن رغم كل هذا الاحباط تمسّكت المرأة العرببة وبقوّة بحقوقها الأساسيّة وانتزعت مكانتها الهامّة في تقدّم المجتمع وازدهاره الفكري والاقتصادي لتُسجل تطلّعاتها الباهظة، وتضع بصمتها على المدى القريب والبعيد لتُثبت وجودها، وقد سطع نجم اكثر من امراة و لمع اسمها في عديد الدول العربية مثل مي زيادة وهدى شعراوي في الادب والسياسة، وبولينا حسون في مجال الصحافة العراقية، و مناضلات مثل جميلة بوحيرد الجزائرية، ثم برزت اسماء اخرى في حقبة مختلفة بكافة المجالات، كالادب والعلوم والتكنولوجيا و الفنون، مثل نازك الملائكة وانعام كجة جي واحلام مستغانمي.
وقد سعت المراة الى تعزيز مشاركتها في المجتمع العربي ورفع رهانات التنمية والازدهار، لما تملكه من طاقات وامكانيات فاعلة و اساسية في التطور، بقطع النظر عن مكانتها كنصف للمجتمع باعتبارها ربة اسرة ومربيّة اجيال وايضا شريكة حياة. فمعظم المُفكرّين والباحثين في قضايا المجتمع يؤكدون على اهمية دور المراة وحتميّة مساهمتها في البناء وحتى تبنّي القضايا المفصلية للأمّة العربية ككل،ّ بدخولها هذا المعترك على مستويات عدّة و دحر مشروعات الهيمنة والتسلُط الذكوري.
والملاحظ اذن ان المراة العربية وكما ذكرت د.ناهد محمد علي “انها ليست مُلاحقة من قبل الرجل، لكنها مُلاحقة من قبل النظام الاجتماعي والسياسي العربي، وهو نفسه من يلاحق الرجل والمراة و كلاهما سواء، فإما ان ينصهروا في بوتقته او يطوفوا على السطح ناجين بانفسهم. ”
إن تحرير المرأة لن يكون بمعزل عن تحرير عقلية شعب بأسره وبناء مجتمع قائم على المساواة، ولن تتحقق الحداثة خارج هذا البعد العربي الانساني. فهل من مشاريع تقدُميّة تؤمن بقيمة المرأة كرهان للحداثة التي تصبو اليها سائر المجتمعات بعيدا عن الطرح الفردي وبرؤية انسانية شاملة؟