نصير الشيخ/
خطاك تقودك داخل سوق التجار أو “السوق الكبير” لمدينة العمارة فيشخص عن يسارك باب خشبي قديم أعلاه قطعة مكتوب عليها (جامع الأفندي).
أصل التسمية “المفتي” جاء نسبة إلى إمامهِ وخطيبهِ (علي بسيم المفتي) وكان في وقت ما أحد وجهاء المحافظة وشخصياتها المبرزة. وعند بدايات القرن العشرين أصبح مفتياً، وكان مع الشيخ (جعفر النقدي) يمثلان قطبي رحى لحل جميع القضايا التشريعية والفقهية والاجتماعية.
وللجامع المسجد أهمية ستراتيجية بسبب موقعه الذي يتوسط السوق حيث حركة المارة والمتبضعين والمسافرين، حيث الصلوات الخمس المقامة فيه وتأدية صلاة الجمعة مع إحياء المناسبات الدينية كالمولد النبوي الشريف وأيام عاشوراء.
وتفيدنا المصادر أن الجامع قد بُني في عشرينات القرن الماضي، وقد بناه الشيخ المفتي من ماله الخاص وألحق به محال تجارية مجاورة وزعها على الكسَبة مقابل إيجارات زهيدة وبنى داراً لإقامته ملاصقة للجامع.
عمق روحيّ
عاش الشيخ علي المفتي عمراً طويلاً حتى وافاه الأجل عام 1949، عندها تسلم مهام الإمامة وإدارة الجامع والإفتاء ولده (سليم) الذي أبقى على المحال التجارية صدقة جارية. وكانت لعائلة المفتي سمعتها الطيبة وحظوتها الكبيرة من قبل جميع الشرائح من علماء دين ورجال سياسة وشيوخ عشائر، ذلك أن ميسان ومنذ القدم تمثل فسيفساء من الطوائف والمذاهب.
ولأن ثمة عمقاً روحياً لهذه العائلة، فحين دنا أجل الشيخ سليم أوصى بأن يدفن داخل باحة الجامع فتم دفنه مع أبيه (علي) في قبر واحد تظللهما نخلات باسقات أصبحت من شواخص المكان.
بقيت أبواب الجامع مشرعة للسائلين والفقراء وطلاب العلم، وتناوبت على إمامتهِ شخصيات دينية أبرزها (الشيخ صالح النجدي، الشيخ علي الكردي، الشيخ هشام عبدالقادر، وصولاً إلى الشيخ حامد جاسم النعيمي).
خلال تجوالنا في أروقة الجامع المسجد، رأينا أنه يضم قاعة كبيرة مفروشة بالسجاد وهي (المصلى)، لها ثلاثة أبواب للدخول، وباحة كبيرة تضم قبري الشيخين، وهناك غرفة الإمام ومخزن مع مغتسلات الوضوء.
مَعلَم أثري
رافقنا خلال تجوالنا هذا، إمام وخطيب الجامع (الشيخ حامد النعيمي) الذي حدثنا عنه قائلاً “منذ الثمانينات كنت في هذا الجامع، حيث كان يشهد إقبالاً واسعاً من قبل المصلين، وللجامع خصوصية في نفوس أهل العمارة، فإضافة إلى
قِدمه وتوسطه السوق الكبير، وضمه لقبري الشيخين، يراه الناس كأثر إسلامي حقيقي، بل ويتبركون به، انظر إلى بابه الخشبي ترى الحناء تصبغها كما تصبغ جدرانه.”
أضاف النعيمي “يسمى هذا الجامع بالأثري لخصوصيته
عند أبناء المحافظة حيث يشهد الصلوات الخمس مع دورات تعليمية للقرآن الكريم (جزء عمّ وتبارك للأولاد وأصول التلاوة للبالغين)، كما تقام فيه محاضرات للوعظ والإرشاد، ويشهد في ليالي رمضان موائد إفطارلجميع المسلمين، كما أنه يفتح أبوابه لإقامة مراسم العزاء في العاشر من محرم ذكرى استشهاد سيد الشهداء الإمام الحسين (ع).
رمز للتسامح
“نقوم بجمع التبرعات هنا من الميسورين من التجار ونوزعها على الفقراء والمحتاجين”، يضيف الشيخ النعيمي “هذا المكان ظل رمزاً للتسامح والأخوة وشد الأزر في الكثير من
أوقات الضيق والعسر، بل كان التوجه فيه لله وحده لا نعرف التفرقة ولا نسمح للنفس الطائفي بأن يكون له مكان بيننا.”
سألنا الشيخ النعيمي عما إذا كان الجامع يضم مكتبة فأجاب “نعم، كانت فيه مكتبة عامرة تضم أمهات الكتب في الفقه والتفسير والعقائد، لكن معظم هذه الكتب، بل أغلبها، سُحب إلى مديرية الأوقاف ببغداد في ستينات القرن الماضي”.