عبد الجبار العتابي/
لحديقة (الأمة) في الذاكرة البغدادية، تحديدا، ذكريات خضر تمتد على مساحات واسعة من السنوات البعيدة، فهي عنوان للبهجة والمسرة والاستراحة والهدوء وقد امتلكت مقومات وجودها كحديقة فعلا وسط عوالم من ضجيج قبل ان تتحول الى مجرد اسم مهمل يقوم على مساحة من الأرض ينظر اليها الجميع على انها واقع حال ربما سيجيء وقت تتم فيه ازالتها لانها لم تعد ذات فائدة.
كلما مررت منها، يجذبني اليها شيء لا ادركه، سرعان ما يدفعني الى ان ادخلها، ولكنني لن اتوغل فيها كثيرا بقدر ما اتوقف مستغربا احوالها المتغيرة نحو الأسوأ وأنا اتطلع في ارجائها التي صارت عبارة عن مساحة من الأرض نبت عليها بعض العشب وقامت على بعض امكنتها شجيرات ونخلات بعضها ما يسمى بـ (الواشنطنية) ما زالت على قيد الحضور بعدد قليل جدا، فيما الجالسون تحت ظلال هذه الشجيرات يعدون على اصابع اليدين الاثنتين، فهي ليست على ما يرام، يشعر المتأمل لها بانها (مريضة) لا يراها خضراء ولا يشعر بالراحة عند الجلوس على احد مقاعدها، بل يشعرها غائبة عن الوعي، وقد شعرت بها وانا انظر الى امتدادها من تحت نصب الحرية حيث اصطدمت نظراتي بنافورتين صغيرتين عاطلتين عن العمل وفي احشائهما نفايات، حاولت ان اتوغل قليلا ولكن لا أثر للمسرة، وحتى حاولت الوصول الى تمثال الأم لم يعجبني مكانه وقد اقيم بالقرب منه مبنى منتدى بغداد الثقافي الذي كان مضرا بالتمثال، خاصة ان المنتدى يقع في منتصف الحديقة واشعره سلبها حريتها، كما افزعني وجود قاعة على مسافة من المنتدى لا اعلم سر وجودها اضفت على الحديقة تشتتا، ومع كل هذه المشاهد كانت ذاكرتي تستعيد العديد من الصور الجميلة التي تفردت بها الحديقة في ازمنة مختلفة، لاسيما تلك الصور التي راح البعض ينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي للحديقة وهي غاية في الدهشة والمتعة حيث البحيرة والجسر عليها والبط فيها والأزهار مختلفة الأشكال والألوان حولها والناس الذين ينتشرون بكثرة في ارجائها.
سألت عن طولها وعرضها ولم أجد اجابة فقد قررت ان اقيسها بخطواتي، فكان الطول 460 خطوة والعرض 78 خطوة، بمعنى ان طولها نحو 300 مترا وعرضها نحو 52 مترا باعتبار المتر هو خطوة ونصف تقريبا، أي انها على شكل مستطيل منخفض محاط بسياج حديدي ولها عدة أبواب، فيما تحدها منطقة البتاويين من جنوبها وساحة الطيران من شرقها وهناك على طرف الحديقة تقف جدارية فائق حسن التي اختفت خلف عربات الباعة، أما من شمالها فتحدها منطقة الباب الشرقي فيما تحدها من غربها ساحة التحرير التي يقف شامخا أمامها نصب الحرية.
ولانني التقيت في ساحة التحرير الشاعر جواد غلوم فقد طلبت منه ان يحدثني عن ذكرياته عن الحديقة، فقال: الحديث عن حديقة الأمة حديث ذو شجون وشؤون قد لاينتهي بصفحات كثيرة واتذكر انها كانت محطة استراحة لي قبيل ان ألج الحفلة الليلية لعروض سينما غرناطة، كنت احمل عشائي المتواضع وهو في الغالب عبارة عن ساندويج من الفلافل وأمامي كتاب اشتريته توا من المكتبة العالمية القريبة من حديقة الأمة، اشبع معدتي من الطعام وأغذي عقلي من الكتاب وأنهل نفسي بفيلم راقٍ مما تعرضه غرناطة بعد التاسعة والنصف مساء، ثم اعود الى بيتي وأصله بعد منتصف الليل ويكاد يكون هذا ديدني في الغالب كل يوم اثنين في استراحة هذه الحديقة التي كانت غنّاء أوان السبعينات وأضحت صمّاء في أيامنا التعيسة هذه.
واضاف: يجدر بي الآن ان اذكر ان صديقنا الشاعر والفنان محمد الخطاط قد دعاني مؤخرا وهو مدير منتدى بغداد الثقافي الذي يقع وسط حديقة الأمة حاليا ودخلت الحديقة سميرتي الأولى فلم أجد الاّ المهمشين والمشردين يقتعدون المصاطب واهجس ان شيئا ما يحصل في باحاتها بفعل تواجد الكثير من المجموعات الشبابية ربما بحثا عن المخدرات أو أية اشياء يخيل اليّ انها تثير الريبة ولا من رقيب أو اطلالة عناية لهذه الواحة الجميلة التي كنا نهنأ فيها وانهيت زيارتي على عجل وقفلت راجعا.
شيء من تاريخ الحديقة
في البدء يمكن قراء شيء من مكان هذه الحديقة عبر التاريخ الذي من المؤكد انه شهد الكثير من المتغيرات لموقعه المميز، وحسب المؤرخ الدكتور حسين امين انها كانت محلة تسمى (باب الازج) في العصر الأموي ومن ثم سميت في العصر العباسي بباب البصلية لوجود مزارع للبصل فيها، مشيرا الى ان في المكان ذاته نهرا قديما اسمه (النهر الحي) ويطلق عليه باللغة الفارسية (نهر الزندورد).. واستخدم العباسيون هذا النهر كخندق لحماية بغداد التي كان يحيطها سور يكمل السور الموجود حالياً ما زالت آثاره عند باب الظفرية في منطقة الشيخ عمر حالياً، كما اشار الى ان هذه المنطقة انشئت كمنطقة سكنية في اوائل الثلاثينات من القرن الماضي وكانت فيها مزارع كثيرة للخس، علما ان البناء بدأ في منطقة البتاويين بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بعد ان بدأ النزوح الى هذه المنطقة بعد (الفرهود) الذي كان عام 1941، وكان اليهود يسكنون في منطقة (ابو سيفين). كانت البتاويين مناطق مزروعة بـ (الخس)، ويذكر البعض ان المكان كان مقبرة تم درسها لتقوم عليها هذه الحديقة التي سميت بـ (حديقة غازي)، وقد افتتحها الملك غازي (1912 – 1939) عام 1937، وحازت على شهرة واقبال من الناس الذين بدأوا يقضون أوقاتا صباحية ومسائية فيها لاسيما عشاق السينما الذين كانوا يقضون فيه اوقات انتظار موعد عرض الأفلام، علما ان امانة بغداد اقامت فيها أول معرض للزهور عام 1946.
وقد اشتهرت في الحديقة سينما غازي الشتوي المقابلة لدار (سينما غازي الصيفي) التي اسست عام 1934، والتي تقع ما بين سينما غرناطة وميامي، لكن (سينما غازي الشتوي) ازيلت بعد ثورة 1958 لتطوير الحديقة وساحة الجمهورية (ساحة التحرير)، وقد اجريت عليها العديد من التحسينات كالنافورات والبحيرات وزراعة بعض الأشجار، وصارت الحديقة اجمل خاصة ان طرفيها زينا بنصب الحرية للفنان جواد سليم وجدارية الثورة أو السلام لفائق حسن، وازدهرت حال الحديقة التي اصبحت ملتقى ومتنفسا للاسر البغدادية لاسيما مع قلة الحدائق وتحولت الى مكان مميز مع توفر مستلزمات الجلوس والترفيه.
تمثال الأم
هو الاسم الحقيقي للحديقة بعد ان كانت تحمل اسم الملك غازي، وما كلمة (الأمة) الا تحريف قام به انقلابيو شباط 1963 لان مزاجهم كان (قومجيا)، وقد اكد ذلك الناقد التشكيلي صلاح عباس قائلا: انجز الفنان خالد الرحال (1926 – 1986) تمثال الأم في سنة 1956، وحين اوكلت مهمة تصميم الحديقة للفنان رفعت الجادرجي طلب من الرحال ان ينجز تمثالا للحديقة فكان ان اعطاه تمثال الأم فكان اسمها حديقة الأم.
واضاف صلاح: بعد انقلاب 8 شباط ومجيء القوميين للحكم تبدل اسمها من الأم الى الامة استجابة لافكارهم القومية!!.
وأوضح: كما استعان رفعت الجادرجي بجواد سليم لانجاز افريز نصب الحرية، وتكونت كراهية بين جواد سليم وخالد الرحال لان الأخير انجز تمثالا اسبق وان نصب الحرية افترس تمثال خالد وغطى عليه.
يبلغ طول التمثال اربعة امتار ونصف وهو منحوت من حجر الملان، ويمثل (الأم وهي تنظر الى مستقبل الجيل الذي يعبر عنه الطفل الواقف الى جنبها).
ولان تمثال الأم يذكر الجميع بان اسم الحديقة في الاصل هو (الام) فقد تم نقله إبان الثمانينات الى حديقة الزوراء لكنه لم يجد مكانه اللائق به فقد تمت اعادته الى مكانه الاصلي بعد سنوات طويلة وتم تأهيله عام 2008 ولكنه اختفى بين ابنية منتدى بغداد الثقافي.
المصورون الفوتوغرافيون
شهدت الحديقة ظاهرة ربما هي الأولى من نوعها في بغداد تتمثل في انتشار المصورين الفوتوغرافيين في ارجاء الحديقة ويبدو ان الظاهرة ولدت مع ولادة الحديقة التي كانت تحفة فنية وكان الدخول اليها يستدعي التقاط الصور التذكارية مع ما تضمه الحديقة من رموز جميلة وحيث كان الأصدقاء يؤرخون لانفسهم بهذا الحضور، وطالما كان المصورون حاضرين بكثرة الا انهم في السنوات الأخيرة وقد شهدت الحديقة انحسارا في تواجد الناس فيها ما اضطرهم الى الخروج منها الى ساحة التحرير فيما ترك البعض هذه المهنة بعد ان وجد نفسها خارج زمن الحديقة.
غرباء وسيارات حريق
وإذ تعد الحديقة من أهم المعالم الجميلة لمدينة بغداد، فأنها كانت محطة استقطاب للقادمين من المحافظات لاسيما ان موقعها في مركز العاصمة يمنحها صفة التميز، فهي مفتوحة على الجهات الأربع للمكان وتقع بين عوالم مكتظة بالناس على الدوام وبمسببات الاستقطاب التي اهمها انها شعبية المظهر والصميم، وهذا ما جعلني اسأل الروائي شوقي كريم حسن عنها، فقال: تشكل حديقة الأمة حافزا جماليا حين تبدأ بالاستذكار، خاصة بالنسبة لنا نحن الذين لفظتنا مدن الجنوب عنوة بأتجاه العاصمة.. كانت تلك الحديقة تختصر كل المسافات لانها تقع على ضفاف الباب الشرقي يسورها أهم معلمين جماليين هما نصب الحرية الخالد وجدارية فائق حسن، وماازال حتى اليوم حين أمر من أمام تلك الجدارية اتفقد تلك الحمامة البيضاء التي حذفها النظام السابق دون سبب وجيه واردد ما قاله سعدي يوسف تطير الحمامات في ساحة التحرير.. تمتلأ روحك بالمسرة حين تهبط السلالم بهدوء لتحدق مليا بتمثال الأم.. تمجد عراقيتك مع الصبي والأمومة التي منحتك رضا اللحظة.. في العيد تتغير ملامح الحديقة.. بركة الماء بجسرها الاجمل من جسور البندقية تحتضن اسرابا من البط.. وثمة اراجيح وتصاوير..
واضاف: معظم ابناء جيلنا والذين سبقونا كانت حديقة الامة تمثل لهم دار الاستراحة حيث الانتظار لموعد. ثم تبدأ رحلة البحث عن عرض سينمائي بين غرناطة والحمراء والرصافي والخيام وسينما روكسي.. خطوات الساحة ثقيلة لكنها مفعمة بالحيوية.. المقاهي تشع بالابتسامات.. الوجوه تشع بالامل.. في عمق حديقة الامة لايمكن ان تشعر بالضجر أو المضايقة.. تأخذك المساحات الى تسالي مبهجة.. وفرح عطر.
وأوضح: لن تتعطل هذه الحديقة حتى منتصف الثمانينات من توزيع سعاداتها من أجل المارين اليها تزاورا.. انحرفت خطواتها بعد ذاك العام حين غزتها جيوش المنحرفين واصبحت محطة للشذوذ ومناما للسكارى.. اهملتها امانة بغداد بعد موت الباب الشرقي وتهديم معظم دور السينما.. قتلت الامانة روح المركز وغدت جدارية فائق حسن مجرد جدار يجلس تحته اكوام من الغرباء ومالبث الضجيج ان استحوذ على المارة بالعربات.. ليس ثمة من احد يرفع رأسه ليتأمل الجمال. وضاعت بهجة نصب الحرية حين لفه النفق ووضعت نافورة تافهة لتدمر الرؤيا كلها.. وعند السلالم اخذت الام وليدها وغاصت في النسيان.. البط والجسر كانا يلومان الوطن. الامة فقدت حديقتها بجرة قلم مسؤول.. حاولت الأمانة احياء الحديقة ولكنها فشلت لان المركز كله قد غادر باتجاهات أخرى.. ليس هناك سوى غرباء وسيارات حريق.. وسيطرات.. ومرور عاجل.. ماعادت البهجة تثير النفوس.. ابدا.. ابدا لايمكن للموت ان يعيد للامة حديقتها الغناء.. يمكن الان ان نصنع الخراب فقط.. وقد اعلنا مرارا اننا لانجيد صناعة حدائق امة.. تشبه تلك الحديقة التي حوتني ذات ظهيرة مع من احب لاول مرة..
انطفاء كأنه متعمد!!
في وجوه الحديقة العديدة أقرأ عشرات التأوهات من خلال ارضها وفضاءاتها وما فيها من غياب للراحة والاستكانة ورحيل المصورين الفوتوغرافيين عنها، فهي على وشك ان تتعرض للاندثار وقد ساءت حالتها وكأن الاهمال الذي تعانيه متعمد واصبح انطفاؤها امرا واقعا.