عبد الجبار العتّابي/
صارت ساحة الفردوس مجرد دائرة مضلِّلة تدور حولها السيارات والناس ويمضون في سبيلهم، تحجب الرؤية عن العابرين منها في إياب وذهاب شارع السعدون، سواء القادمين من الكرادة او من الباب الشرقي، حيث لا يرى الذاهب أوالعائد، خاصة في الليل، إلا منطقة معتمة كأنها صخرة مبهمة، فيما الناظر إليها من أعلى فندقي الشيراتون والميريديان المجاورين لها لا يشاهد سوى بقعة من الأرض خاوية مجدبة تثير التشاؤم والأسى في النفوس لأنها مكفهرة الوجه عابسة التقاطيع.
وقد انتهت الى هذا الحال المقيت من الإهمال واللامبالاة بعد ان عاشت متغيرات غريبة وعجيبة طيلة مراحل حياتها الممتدة لأكثر من 76 عاماً.
تحلم بجنديِّها المجهول!
منذ أكثر من 14 عاماً، وساحة الفردوس جاثمة على نفسها وذكرياتها وغائبة عن الوعي مغلقة أبوابها ونوافذها أمام الحالمين بإعادة نصب جنديِّها المجهول الشهير وأمام الناظرين إليها، أثناء عبورهم منها، الذين لا يرون منها شيئا، فهي محاطة حالياً بسياج حديدي ومتروكة منذ أشهر على هذه الحال من دون أن تنال جهداً استثنائياً لإعمارها باعتبارها ذات موقع جميل وسط بغداد، بل أن رياح الإهمال تضربها من كل جهة من جهاتها وكأنها ليست في بغداد او أن موقعها هامشي. لذلك غابت صور الجمال من المكان كله وصار الناظر إليها لا يرى إلا دائرة السياج تلفّها والأتربة والنفايات المتجمعة حولها التي سرعان ما تنزل الى الشارع وتدور دورة كاملة حين تهب الرياح. أما داخل الساحة فقد أزيلت كل معالمه السابقة ولم تبق سوى نخلة صغيرة يتيمة وشجرة على مسافة منها، وكرفان صغير محطم، فيما الأرض ترابية غير مستوية ولا يتضح أنها في طور الإعمار أو أن يداً عاملة ستمتد إليها قريباً.
موقع الساحة
تقع الساحة في صوب الرصافة من بغداد، في منتصف شارع السعدون الممتد من الباب الشرقي الى تقاطع المسبح في الكرادة الشرقية، في منطقة تشرف على نهر دجلة، تحيط بها معالم مهمة مثل: جامع (17 رمضان) وفندقا عشتار (شيراتون) او (كريستال جراند عشتار) حالياً، وفلسطين (ميريديان)، ونادي العلوية الاجتماعي الذي يعود تاريخه الى عام 1924، فضلا عن كون المنطقة حولها سياحية وتجارية والشوارع القريبة منها تؤدي الى أمكنة مهمة وراقية.
أمنيات ومطالبات
كثيراً ما سمعنا خلال السنوات الثماني الماضية، على الأقل من أمانة بغداد، عن مشاريع لإعمار ساحة الفردوس ونزع مخلفات النظام السابق منها وتهيئتها لتكون ساحة نموذجية تليق بموقعها وما حدث في التاسع من نيسان، فكانت هناك فكرة لإقامة نصب بعنوان (العراق) للفنان عباس غريب الفائز بجائزة أفضل عمل فني ليكون جاهزاً أثناء احتفالات بغداد عاصمة للثقافة العربية ولكنه لم ينفذ، كما جاء الكثير من المطالبات بإعادة نصب الجندي المجهول للمعمار الكبير رفعت الجادرجي من جديد إليها لتستعيد فردوسها المفقود بهدف إحياء التراث البغدادي، وقيل إن الأمانة اتصلت بالفنان رفعت الجادرجي الذي رحّب بالفكرة ووعد بأنه سيعمل مع دائرة التصاميم في الأمانة على إجراء بعض التعديلات التي تتناسب مع المرحلة الحالية، كما قرأنا أن لجنة إزالة مخلفات النظام السابق في مجلس الوزراء تسعى الى إعادة بناء وتأهيل (نصب وساحة الجندي المجهول) لأنه يعد رمزاً من رموز بغداد التراثية والحضارية ويحمل الكثير من المعاني السامية في نفوس العراقيين، مثلما قرأنا أن التصميم القديم سيكون نفسه، وبالقياسات والفضاءات والزوايا والانحدارات التي كانت وما تزال مبنية على أسس علمية ترجع جذورها إلى الحضارتين السومرية والرومانية، ولكن ستكون هناك بعض التعديلات مثل إدخال التكنولوجيا عليه كالإضاءة الليزرية والألوان.
رأي أمانة بغداد
لكن كل ذلك لم يتحقق خلال السنوات الثماني الماضية، بقدر ما وجدنا الساحة تتعرض للغلق والحفر والدفن وإزالة محتوياتها، وهذا ما جعلنا نتوجه بالسؤال الى الناطق الرسمي لأمانة بغداد حكيم عبد الزهرة الذي قال إن دائرة التصاميم في أمانة بغداد تقوم حالياً بتطوير وتحسين المشهد الحضري لساحة الفردوس حيث تم إعداد تصميم للساحة من قِبل مكتب المهندس منهل الحبوبي .
وأضاف أن العمل يشمل تصغير مساحة الساحة وتقليل ارتفاعاتها، وفي رؤية المصمم وضع نافورات وأعمال مساقط مائية تحاكي شكل نصب الجندي المجهول القديم.
76 عاماً من المتغيرات
يعود تاريخ إنشاء ساحة الفردوس الى عام 1940 حين قرر مجلس أمانة العاصمة في جلسته المنعقدة بتاريخ 18 تشرين الثاني 1940 تسمية عدد من الساحات في بغداد ومنها الفردوس كما جاء في القرار : (الساحة التي ينتهي فيها شارع السعدون الواقعة قرب نادي العلوية وتسميتها بساحة الفردوس). وفكرة إنشائها تزامنت مع فكرة تأسيس جامع الملك (17 رمضان) الذي بُني بجانبها تيمناً باسم الملك غازي (1912 – 1939)، وكانت مساحة الساحة أصغر من مساحتها الحالية، لكن شهرتها التي اكتسبتها بشكل أكبر كانت بسبب (نصب الجندي المجهول) الذي اقترحه الزعيم عبد الكريم قاسم (1914-1963) لتخليد الجنود العراقيين المجهولين الذين ضحوا بأرواحهم من أجل العراق، وصممه المهندس المعمار رفعت الجادرجي (تولد 1926)، وأن الجادرجي هو الذي اختار ساحة الفردوس لإقامة النصب، حيث قال الجادرجي عنه أيضاً “أنشأت لنفسي مقراً في ساحة العمل لنصب الجندي المجهول وأخذت أتنقل بينه وبين الموقع الآخر لنصب 14 تموز، كنت متفرغاً لأتفقد الموقعين نهاراً وأزورهما مساءً وأحياناً في ساعة متأخرة من الليل، ولما فكرت بالإضاءة اتصلت بشركة فيليبس لطلب خبير فتم استدعاء خبيرها بالإضاءة الذي كان آنذاك مقيماً في طهران فجاء الى بغداد وعرضت عليه مبادئ تصميم الجندي المجهول وبينت له بأنني أريد أن أضفي مسحة معاصرة على النصب على أن يتراءى في الوقت نفسه وكأنه بعيد للناظر لأضيف الى التصحيح البصري الذي استخدمته للإيحاء بالضخامة المفتعلة، فاختار الخبير لهذه الإضاءة اللون الأزرق.”
وتم افتتاح النصب مساء يوم 14 تموز 1959من قبل عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق الأسبق (1914 – 1963)، ليكون مزاراً لكبار الشخصيات السياسية التي تزور العراق وتضع أكاليل ورودها هناك، ومع التقلبات التي نالت الجامع بتسمياته إلا أن الساحة بقيت تحمل اسم الفردوس، وظل النصب شاخصاً للأبصار ومثاراً للإعجاب كونه فريداً من نوعه، فضلاً عن أنه يعود الى حقبة يعتبرها العراقيون مميزة بزعيمها وإنجازاتها.
لكن النظام السابق كان ينظر الى النصب نظرة حزبية مقيتة ضيقة فقرر هدمه عام 1981 وبنى نصباً آخر للجندي المجهول بديلاً عنه وضعه في حي التشريع (المنطقة الخضراء حالياً)، وفي عام 1990 وضع صدام (صنمه) في الساحة محاطاً بنصف دائرة من الأعمدة الرخامية عددها 37 عموداً، رمزاً لمولده في عام 1937، ليكون المكان في عام 2003 محط أنظار العالم حين أسقطت القوات الأميركية الصنم ليكون إعلاناً لتاريخ عراقي جديد وخاصة بعد ان سحَل العراقيون خردة التمثال. ومع الفرح بسقوط الطاغية أسرع شباب أطلقوا على أنفسهم جماعة (ناجون) لوضع نصب صممه الفنان باسم حمد (1973 – 2007) على قاعدة التمثال السابق، (يرمز للوحدة الوطنية ويظهر توحد عدد من الأفراد وهم يرفعون شمساً سومرية)، لكن النصب الجبسي لم يصمد طويلاً، فظلت الساحة تزداد سوءاً عبر السنوات اللاحقة فيما تلك القاعدة الصمّاء تحكي للناس ما جرى .
نصب العراق
من جهته، يقول الفائز بنصب العراق الفنان عباس غريب (مواليد 1965) الذي قررت وزارة الثقافة أن تقيمه في ساحة الفردوس: المشروع قائم ولكن التخصيصات المالية قليلة إن لم تكن معدومة، سبق وأن اتصلت بي د. ذكرى علوش أمينة بغداد وعرضت أن تنفذه ولكنها فوجئت بالكلفة العامة للمشروع فقالت لانملك مثل هكذا مبلغ، كما التقى بي السيد منهل الحبوبي الذي جاء من لندن لينفذ النصب ولكنه صُدم بالنصب كونه عملاقاً بتخصيصات قليلة، وأخبرني أن هناك رؤية لإعادة نصب الجندي المجهول القديم.