بقلم: غادة بطي
كنت صغيرة. لا أذكر متى وكيف، وفي أي سنّ تحديداً بدأ يراودني حلمي الصغير في أن أصبح صحافية. غير أنني أعرف كيف نما الحلم وكبر معي.
«الحلم الغريب»! هكذا أطلق عليه أصحاب والدي بعدما أجبتهم عن سؤالهم لي: «ماذا أريد أن أكون حينما أكبر؟»، وهو سؤال تقليدي ودارج في كل زمان ومكان تقريباً، يطرحونه على كل طفل يرونه لفتح الحوار معه واظهار اللطف تجاهه، وفي مقابل ذلك ينتظرون رد الطفل، وعادة ما يكون هو الآخر تقليدياً: «أريد أصير دكتوراً».
لم يكن ردي تقليديا حينها، وربما لم يتوقعوه مني، ليس فقط لأنني كنت طفلة أو لأنني لم أقل «أريد أصير دكتورة»، وانما لأنني في الحقيقة كنت أحمل في ذات الوقت رغبتين متخالفتين، على الأقل من وجهة نظرهم، فكان جوابي بكل بساطة: «أحلم أن أصير عالمة وصحافية». ومن هنا صرت الطفلة صاحبة الحلم الغريب.
في مقابل شغفي بالصحافة، كان ثمة تجاهل أو عدم اهتمام من جانب أسرتي، وكأنهم في قرارة أنفسهم يفكرون بأنني طفلة أو مراهقة تعبث بها الرغبات، وأن شغفي هذا سوف يضمحل أو ربما سيتحول إلى اتجاه آخر حالما أكبر وأنضج، وأنساه. وهذا ما لم يحصل أبداً، رغم كل التحولات التي أثّرت في مسيرتي وأبعدتني فعلاً عن تحقيق حلمي، لكن إلى حين.
كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي من كتب في شتى الاختصاصات، اقرأ حتى الكتب المنهجية لإخوتي، إذ كنت أصغرهم. أثارتني كتب النصوص والأدب، وكنت أحفظ بعض القصائد منها، ثم جاء السبب الأكثر تأثيراً عليّ، والذي بلور عشقي للغة العربية ونبهني لتوجهي؛ كان كتاب «تاريخ الأدب العربي» لأحمد حسن الزيات الذي قرأته وأنا في الصف الثالث المتوسط، وكان قد وقع في يدي بالصدفة، إذ كان لصديق أخي الذي نسيه عندنا. أولعت بالكتاب من أول صفحة وقرأته بنهم الجائع لوليمة شهية. كان بمثابة كنز لي. ثم حدث وأن أهداني صاحبه إياه حينما لاحظ ولعي بكتابه المنسي.
أخذتني سنوات الدراسة والانهماك في مقرراتها والمناهج والامتحانات. درست في الفرع العلمي في الثانوية مع أنني رغبت بالفرع الأدبي، لكن أسرتي عارضت بشدة، على اعتبار أننا من أسرة علمية التوجه واختصاص أفرادها ينبغي أن يتبع القاعدة ولا يشذ عنها. أكملت دراستي الثانوية بتفوق، فلطالما كنت مجتهدة ومثابرة في التعلم، اجتزت البكالوريا بمعدل عالٍ، وفرحت وفرحت أسرتي أكثر. ثم جاءت ساعة الاختيار، ما الذي عليّ أن أدرج في كارت التقديم للقبول في الجامعة؟
دخلت الجامعة التكنولوجية في قسم الهندسة المعمارية وأحببت العمارة جداً. تعلمت فيها الكثير من علم وجمال وفلسفة وهندسة. ثم تخرجت وأضحيت مهندسة معمارية، غير أن ذلك الحلم (الغريب) لتلك الطفلة لم ينقطع عني. كانت جامعة بغداد قد فتحت باب القبول في الدراسات المسائية لمن يرغب بالدراسة خارج إطار إجراءات القبول المركزي في الجامعات للدراسات الصباحية. فقدمت للدراسة في قسم الإعلام ودرست ثم تخرجت ونلت شهادة البكالوريوس.
كانت دراستي متعة بحد ذاتها، لم أشعر أبداً أنني كنت في واجب. كنت أستغرق في كل محاضرة بجل اهتمامي، وبحواسي كلها وانتباهي، وأحرص كل الحرص على استيعاب أكبر كم من العلم والمعلومات. كانت فرحتي تتعاظم وأنا اقترب من تحقيق حلمي بالدخول إلى عالم حضرة صاحبة الجلالة، مهنة البحث عن المتاعب، هذه العبارة التي قلبتها في قاموسي الشخصي وأبدلتها بمهنة البحث عن المتعة.
قبل أن اتخرج بعام تقريباً بدأت أكتب في جريدة الإعلام التي كانت تصدر عن قسمنا في الكلية. ثم نلت بعد 2003 الماجستير في الإعلام. لم أترك العمل حتى في خضم الحرب وما تلاها من ظروف عصيبة ولحظات خطرة كدت أقترب فيها من الموت كسائر العراقيين، عندما بدأ القتل والخطف والإرهاب يضرب بغداد. لم يكن لهذه الظروف أن تثنيني عن عملي الذي أحب، إذ كان هاجس إيصال الحقيقة هو شغلي الشاغل عبر الصحافة والإعلام، وكان جزءاً من وفائي لمهنتي ولقيمها الأخلاقية الرفيعة.