عبد الجبار العتابي /
نامت على قارعة النسيان وتلفلفت بالغياب الظاهر على شكلها الخارجي المحاط بالكتل الكونكريتية الباردة ولم تعد تلفت انتباه المار اليها، فبات السكون يغرقها والغبار يلوّث فضاءاتها ومساحاتها، وحيث لا لافتة تعريفية على جدرانها ولا علامة تشير اليها وترفع اسمها، فقد صارت جزءا من مكان يمر به العابرون ولا يلتفتون اليه،
وحتى حين تريد اختبار أحد وتسأله عنها سيرد عليك بأنها (وزارة الدفاع السابقة)، وحين تتأملها وتستغرق في ماضيها وفي دواخلها تشعر بالحزن يتمدد مثل غشاء مطاطي ويغلف ذهنك، فهناك أسف شديد ان يغرب هذا المعلم الحضاري مع سبق الاصرار.
ليست مجرد قاعة، بل ذاكرة اختزنت الكثيرة من الأحداث والأسماء والنشاطات الفنية التي احتضنتها وركزت في خاطرها والتي جعلت منها هالة من ضوء تجتذب الناس اليها وتقرّ لهم بالجمال الباذخ لاسيما انها بمثابة (واحة) هفا اليها المبدعون الذي طابت نفوسهم بالابداع فطربت واطربت، فهي مترعة بالعجائب والدهشة، على غير ما هي عليه الآن متخمة بالاهمال والغبار والتداعي والنسيان الذي اذابها وحولها الى كومة أحجار على قارعة طريق لم يعد يسلكها الكثيرون، ويكفي ان نقول انها عدّت من أهم مباني مدينة بغداد، بل انها الصالة الأولى فيها والوحيدة آنذاك ولسنوات طويلة وقد احتضنت الكثير من الأنشطة الثقافية والفنية حيث توصف بانها (صورة مصغرة من اوبرا باريس).
تلك هي قاعة الشعب الكائنة في الباب المعظم، تقع ضمن القلعة العثمانية المسماة فيما بعد (وزارة الدفاع سابقاً)، في الجهة اليسرى منها يحاددها جامع الازبكية في أول الطريق العام المؤدي الى شارع الرشيد، يقال ان اسمها الأول كان (قاعة المأمون) ويبدو ان اطلاق الاسم جاء تأثرا بالمدرسة المأمونية التي كانت تقع عند الباب المعظم جوار مبنى وزارة الدفاع (سابقا)، وأسست في عشرينات القرن العشرين، ويسميت المدرسة المأمونية بهذا الاسم لان الاعتقاد كان سائدا إلى البناء العباسي في القلعة كان إيوانا لقصر المأمون. ولكن سرعان ما تم تغيير اسمها الى (قاعة الملك فيصل الثاني) ومن ثم الى (قاعة الشعب) بعد ثورة 14 تموز 1958 ، وبالتحديد حين اعلن رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم في 12 آب 1958، تغيير أسماء المؤسسات والمرافق العامة من دلالات الملكية الى الجمهورية.
مصممها معماري مجهول
مثلما لا تعرف بالضبط سنة بنائها، لا يعرف ايضا اسم مصممها المعماري، لكن الثابت انها انشئت في زمن أمين العاصمة أرشد العمري، في ولايته الثانية الممتدة من 2 / 11/ 1936 الى 4 / 6 / 1944 ، وقد افتتحت بمسرحية لطلاب معهد الفنون الجميلة تحمل عنوان ( شهداء الوطنية) من اعداد واخراج حقي الشبلي، وبطولة ابراهيم جلال.
وحسب المعماري الاكاديمي د. خالد السلطاني فأن اسم مصمم القاعة غير معروف على الرغم من تقصياته واستفساراته، موضحا (ان المبنى لم يُصمم من قبل اي من المعماريين الانكليز أو العراقيين، الذين عملوا في تلك الفترة)، لكنه قال عنه انه (معمار محترف، يعرف مهنته جيداً، ومطلع على الأساليب المعمارية وطرزها. انه قطعا غير حرفي، انه معمار: حاصل على تعليم أكاديمي)، ولكن من الممكن الاشارة الى سنة بنائها بعد بحث وتقصي طبعا، وربط لأحداث أخرى ويمكن تقدير ذلك بسنة 1941 من بعض التفاصيل، منها ما يخص مسرحية (شهداء الوطنية) التي مثلها الفنان ابراهيم جلال الذي دخل قسم التمثيل في معهد الفنون الجميلة سنة 1940 ،حيث حصلت على تأكيدات انه مثلها وقد كان طالبا في معهد الفنون الجميلة الذي تخرج فيه سنة 1944، خاصة ان اغلب الاشارات الى سنة بنائها تؤكد (مطلع وبداية الاربعينات).
وجاء في وصفها انها (بناية مظهرها الخارجي بسيط ، ولكنها من الداخل حسنة الهندسة والترتيب، وتضم صالة للمسرح تتسع لحوالي (500 شخص). وكثيراَ ما كانت تقام فيها الحفلات الموسيقية والغنائية والمسرحيات، وتعقد فيها المؤتمرات الدولية وتلقى فيها المحاضرات العلمية)، ويرى المعماري الدكتور السلطاني (ان أبعاد فضاء القاعة الداخلي الواسع، وطبيعة وظيفة تلك القاعة، شكلتا عاملين أساسيين لدى المعمار، في تخليق اللغة المعمارية للمبنى. واذ حلّ المعمار معضلة تسقيف فضاء القاعة الواسع، بواسطة قبو ضخم، يُرى جزء منه من الخارج، فان المعالجة الواجهية للمبنى، الذي شغل زاوية الموقع المطل على شارعين، اتسمت (أو بالأحرى، كان عليها ان تتسم)، على صلادة واضحة، تعكس خصوصية الفضاءات الداخلية. الا ان المعمار مع هذا ارتأى ان تكون ثمة فتحات لنوافذ في جدران المبنى المحيطة من كل الجهات. ان وظيفة تلك الفتحات متنوعة، فالخلفية منها تضيء فضاءات الغرف الادارية الواقعة خلفها، في حين باعث وجودها في الواجهة الأمامية والجانبية كان لاضاءة الممرات الداخلية المؤدية الى القاعة الرئيسة).
أحداث لا تنسى
من ذاكرتها يمكن قراءة اهم الأحداث التي جرت فيها والتي نجد انها قد تأثرت بأنظمة الحكم والواقع السياسي للعراق، وقد تغيرت احوالها فكانت تسوء اكثر فأكثر من نظام الى آخر حتى ان مهمتها الأساسية اصبحت على الهامش، فخرج الفن والجمال منها بعد ان دخلتها السياسة وغمرتها باشكالاتها الضاجة بالقبح والترهات، بل انها تحولت الى معتقل ومحكمة وصار الخوف والرعب بديلا عن الموسيقى والجمال فيما صارت الخطب الحماسية بديلة عن الوقائع المسرحية.
فمن أهم الأحداث: المؤتمر الأول لنقابة الصحفيين العراقيين بعد ثورة 14 تموز 1959 الذي اجتمع فيها حيث تم انتخاب الشاعر محمد مهدي الجواهري أول نقيب للصحفيين العراقيين بالاجماع وبحضور الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء ورؤساء الاحزاب، كما انعقد فيها المؤتمر الثاني لاتحاد الطلبة العراقي في شباط 1959 وشاركت في المؤتمر وفود اجنبية، ومن بينهم السيد باليكان رئيس اتحاد الطلاب العالمي ودول أخرى، وفيها قرأ الشاعر عبد الامير الحصيري عام 1966 احدى روائعه وهي قصيدته/ الملحمة (يا باسل الحزن) عن الراحل جواد سليم في اول احتفال يقام بذكرى رحيل جواد سليم بعد ان تم استئجار القاعة بخمسة دنانير بعد وساطة وزير الثقافة والارشاد آنذاك وقد كان مبلغ تأجير القاعة ليوم واحد فقط 30 دينارا وهو مبلغ كبير آنذاك، وفيها عقدت المحكمة العسكرية الخاصة التي أسست عام 1958 بأمر من الزعيم عبد الكريم قاسم، ويطلق عليها ايضا محكمة الشعب أو محكمة المهداوي، حيث تم تعيين العقيد فاضل عباس المهداوي رئيساً لها، وكان الغرض من تشكلها محاكمة المسؤولين في النظام الملكي، وكانت وقائعها تنقل عبر التلفزيون والاذاعة، واستمرت جلساتها حتى سقوط نظام عبد الكريم قاسم عام 1963.
وفيها بات الزعيم عبد الكريم قاسم مع بعض رفاقه آخر ليلة في حياته بعد ان هاجم انقلابيو 8 شباط 1963 مبنى وزارة الدفاع، فانسحب اليها الزعيم ليحاول منها التوسط أو اجراء مفاوضات، لكن كانت ليلته طويلة، وفي الساعة الثانية عشرة والنصف من ظهر يوم 9 شباط خرج من القاعة الزعيم ومعه المهداوي وطه الشيخ احمد وكنعان حداد، وكانت بانتظارهم ناقلتان مصفحتان عند باب القاعة حيث ذهبتا بهم الى المكان الذي لقوا فيه حتفهم اعداما في مقر الاذاعة والتلفزيون.
قاعة منسية
هذه القاعة المنسية.. كانت احدث صالة عرض مسرحي شيدت في العراق، وكانت منذ انشائها مسرحا للمهرجانات والنشاطات الفنية الجميلة ابتداء من عرض مسرحيات الى حفلات موسيقية وغنائية وعروض أزياء واوبريتات ورقصات باليه، فيما اصبحت خشبتها ملاذا لطلاب معهد الفنون الجميلة لعرض مسرحياتهم، وكانت فرقة الزبانية (البغدادية) التي تأسست في بغداد سنة 1947 تقدم مسرحياتها على خشبة مسرح القاعة، كما اتخذتها الفرقة القومية للفنون الشعبية مقرا لها، وتعرضت القاعة اثناء اجتياح العراق عام 2003 الى حريق كبير أتى على المسرح والمخازن الكبيرة التي كانت ملابس العارضين تحفظ فيها ويعود تصميمها وانجازها الى اكثر من 30 سنة، فيما صارت ملاذا عشوائيا للعديد من العوائل التي وجدت في الفوضى وسيلة لاحتلال مؤسسات الدولة، واستطاع من يهمه أمر القاعة، بعد حين، من اقناع هؤلاء بترك المكان بعد تقديم مبالغ مادية.