عبد الجبار العتابي /
هو أشهر كراج سيارات لنقل المسافرين في العراق، ذاكرته مترعة بالحكايات المريرة فقط وبعناءات الموت التي يحملها الجنود العائدون من جبهات القتال إبان الثمانينات خاصة. يكاد الذي يعرفه يشم في الاقتراب منه روائح الوجع والخوف التي تفوح من أمكنته ،ويسمع أغنيات الأسى والألم التي حفظتها الجدران وفضاءات المكان حتى أصبح الناظر الى الكراج يراه مجرد (خيمة) كبيرة سوداء تُقرأ فيها (سورة الفاتحة) على أرواح الراحلين الى الموت!
على الطريق الى كراج النهضة لا بد ان تصعد في سماوات الرأس رايات ترفرف بالخوف والتوجس لأن الخلايا الحسية تنشط بما تحمله الذكريات عنه، ما ان اقتربت منه حتى تخيلتني أرى قامات كثيرة من اللون الخاكي، تحمل حقائبها على الأكتاف، وهي تخطو بخطوات وئيدة نحو النداءات المشيرة الى جحيم جبهات الحرب. وحين وصلت اليه وجدته عاطلاً عن العمل، ثمة بناء جديد له لكنه غير مكتمل، كأنه يريد ان يمحو كل الذكريات التي التصقت بأرضه وجدرانه وحلقت في فضاءاته وصارت غمامات من أسى حيث ما يزال الجنود الناجون العابرون من هناك يشاهدونها بوضوح وكأنها تلوّح لهم بتحية النجاة. حاولت ان ألمس الجدران واسمع الأصداء وأتوقف عند الباب الرئيس وأعاينه وأحسب أعداد الذين مروا منه ولم يعودوا وأنظر الى مدياته البعيدة. كنت ارى كميات هائلة من عذابات وهموم وقلق وبقايا صبر ودماء لم تجف بعد وأعلاما لم تعد خفاقة، واشاهد عناوين مبعثرة على الأرض، لم تعد لها قيمة، مثلما كنت أرى الكثير من الجنود ينامون على الأرض والجزرات الوسطية انتظاراً لشيء ما غير الحافلات ولكنهم لا يجدون فيما بعد غيرها، تذكرت الحديقة الصغيرة على يسار الكراج (أزيلت الآن) التي كانت ساحة للعب الكرة في النهار وفندقاً من درجة ما للجنود ليلاً. أغمضت عينيّ وخطوت قليلا أتأمل ما كان عليه المكان وسط ذلك الصخب، فرأيت بائعات الشاي والقيمر بعيونهن الكحيلة وحمرة (الديرم) التي تلتهب على شفاههن بغنجهن وشقاوتهن، رأيتهن ما زلن هناك يفترشن الأرض ومحاولاتهن إخضاع الجنود بكلامهن المفعم بالتغزل بـ (ابو خليل) للجلوس بالقرب منهن لاحتساء الشاي المغمس بمشاكساتهن المشفرة أحيانا، فيما هناك بعض البغايا اللواتي يجدن في ليالي الكراج ملاذاً وكسباً للرزق، وهن (يطقطقن بعلكتهن) وقد وفّر لهن بعض عناصر الشرطة الحماية.
أتحرك قليلا .. فأراني وسط غابة من آهات الحصار التي تنز فقراً وشقاء ابتداءً من تسعينات القرن الماضي وأفواج من الناس تبحث عن أرزاقها وسط صخب الحياة، تبيع كل شيء وتبحث عن اي شيء كمصدر للعيش، وتفترش بـ (بسطياتها) البسيطة أرصفة الكراج ، فيما يزدهر التسول لاسيما بين الأطفال والنساء الكبيرات في العمر وكلهم يجوبون السيارات بحثاً عن أصغر عملة. كان كراج النهضة عبارة عن بطن عذاب لا يلد سوى الانتهاكات الصارخة لأبسط حقوق الإنسان.
أمسح وجهي بيديّ الاثنتين وأفرك عينيّ لأشاهد بوضوح تلك التفجيرات الإرهابية التي تعرض لها الكراج بعد 2003 والتي راح ضحيتها العديد من المواطنين، كأنني ارى في تلك اللحظات الأشلاء والسيارات المحترقة التي أعادت روائح الموت القديمة .
توقفت كثيراً أمام الكراج الممتد على مساحة واسعة من الأرض والغريب أن ليست فيه شجرة واحدة مثلما اعتقدت ان الطيور لم تقربه !.
مقبرة يهودية
ذاكرة المكان الذي صار عليه كراج النهضة تؤكد انه كان مجرد مساحة خالية في أزمنة خلت، وان العمر الحقيقي للكراج ليس أكثر من 45 عاما ، وأنه كان في الأصل مقبرة لليهود حيث كانت الأرض ،وما زالت، ملكاً صرفاً للطائفة اليهودية قبل ان يتم اغتصابها من قبل نظام البعث المباد الذي نبش القبور ونقل مكان المقبرة الى منطقة الحبيبية (شرقي بغداد)، أكد ذلك شهود عيان قال احدهم : أتذكر مقبرة اليهود في النهضة قبل بناء الكراج وقد اخذت (الشفلات) تنبش القبور، كان ذلك في منتصف السبعينات، وأضاف: الذي لفت نظري وجود كمية كونكريت او اسمنت في القبر او فوق الميت فسألت والدي عن ذلك فقال إن اليهود كانوا يخافون نبش قبورهم من قبل الحرامية لاعتقادهم انهم يدفنون مجوهراتهم او اشياء ثمينة معهم ولذلك يصبون الإسمنت بعد دخول الميت في اللحد .
وأوضح : لديّ خريطة لبغداد من عام 1959 وباللغة الانكليزية وفيها وجود هذه المقبرة بشكل واضح ومكتوب مقبرة يهودية .
شاهد عيان آخر فقال : تقع مقبرة الطائفة اليهودية في حي الحبيبية في بغداد بعد ان نقلت من مكانها القديم في شارع الشيخ عمر نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن المنصرم حيث شيد في مكانها وعلى أرضها وعلى الكثير من القبور وعظام المتوفين من اليهود كراج النقل العام والمحال التجارية في ساحة النهضة، مع العلم ان ارض المقبرة كانت ملكاً صرفاً للطائفة اليهودية في بغداد تم الاستيلاء عليها من قبل أمانة العاصمة في بغداد وبأمر من رأس الدولة في ذلك الوقت .
اسم النهضة
قد يكون اسم (النهضة) يدعو للاستغراب خاصة ان كراجاً يسمى به وفي بقعة هي عبارة عن مقبرة وأمكنة ليس فيها من التجدد شيء، ولكن الاستغراب يتلاشى حين معرفة محاولة أمانة بغداد إضفاء صورة تغييرية على واقع مدينة بغداد آنذاك ، فوجدت ان تسمي الكراج الجديد بـ (النهضة) لأنه اول كراج مركزي ، فضلاً عن كونه جزءاً من مخطط (نهضة بغداد) وتعمير مناطق ما بعد السدة، او كما تسمى (خلف السدة) وكانت تسمى (الميزرة)، وهي تحوير لاسم (المجزرة)، مجزرة الشيخ معروف القريبة من هناك،حيث يستبدل الجيم بالياء على لهجة بعض المحافظات، والسدة هنا سدة ناظم باشا الوالي العثماني الذي بناها شرقي بغداد لصد مياه الفيضان عن بغداد، ومكانها الحالي طريق محمد القاسم أي طريق المرور السريع الذي يحادد كراج النهضة من جهة الشرق حاليا، حيث يقع الكراج ضمن المحلة التي تحمل الرقم (135) حسب التصنيف الجديد لأمانة بغداد، ويحده من الغرب شارع الشيخ عمر ومن جنوبه منطقة السكراب ومن شماله مركز شرطة باب الشيخ وخلفه مرقد سيد ابراهيم.
كراج الحروب
اشهر التسميات التي أطلقت على كراج النهضة هي (كراج الحروب) كما وصف بأنه (سيئ الصيت) والكثير من التسميات التي لا تعرف المرح ولا الفرح بقدر ما كانت تحمل الكدر والأسى والضياع والوداع والموت ، حتى أطلق عليه البعض (درب الصد ما رد) لأن النهايات الممتدة منه لا تعرف شيئاً اسمه (العودة)، او كما يقول الشاعر الراحل محمد درويش علي (أن كراج النهضة هو سجل مهترئ لذكريات الذاهبين الى مطاحن الموت قديما)، وهو القائل عنه ايضا (لا يمكن أن يتخلص هذا الكراج من عفونة تاريخه، فهو ذكرى مريرة تأبى المغادرة، فمن ينسى باعة أحذية الجيش والرتب العسكرية وصباغي الأحذية وبائعات الهوى وباعة الشاي والفلافل والبيض والقيمر والمجلات القديمة والتسجيلات الصوتية وأشرطة ‘ملا ضيف الجبوري’ والدبكات على إيقاع ‘المطبج’ ،،وطالما كان الكراج شاهد على أوجاع الفراق وبكاء ونحيب الأحبة وهم يودعون بعضهم البعض لأن الطريق الى الحروب لا يمر من درب السلام، مثل الطريق الى كراج النهضة الذي لا يعرف الطمأنينة. وهنا حيث يرسم الشاعر عدنان الصائغ مشهداً من هناك:(.. ثم فجأة صرختُ بهستريا: اغمضوا عيونكم.. لننطلق إلى كراج النهضة، نفتحها على مشهد الجنود يتدافعون إلى الباصات باتجاه جبهات الموت، وحيث وداع الآباء ودموع الأمهات والزوجات. وأمام باب مفرزة الانضباط العسكري ثمة توابيت ممتدة إلى مسافة ليست بالقصيرة، ومغطاة بأعلام عراقية تنتظر من يحملها إلى ذويها المساكين).
كان الجنود وهو يحملون حقائبهم في تلك الليالي التي يلتحقون بها كأنهم آلات تلبي نداءات السائقين المختلطة ببعضها وهي ترغمهم على الصعود إلى السيارات الذاهبة الى هناك (بصرة عل ناصريه، بصره عل عماره، بصرة بالدولفين بالجنح بالبهبهان بالسلبرتي بالكابرس بالسوبر بالمنشأة بالريم، أسماء سيارات مختلفة باللهجة العراقية الدارجة).
وبسبب هذه الحروب كان الكراج أكثر كراجات الدنيا التي كتب عنها الأدباء والشعراء، دونوا عناءاتهم منه وضياعاتهم فيه ،كما كتب عباس الحربي مسرحية مونودراما عنه باسمه (النهضة) أدتها الفنانة عواطف السلمان عام 1997 والتي بسببها اعتقلت الفنانة في مديرية الأمن العامة بينما هرب مخرجها الى خارج العراق بسبب ما جاء في نص المسرحية : (جعنه وما لكينه طحين بالبيت / اخاف يمر وكت ما نلكه البيوت) .
يقول المخرج المسرحي كاظم النصار : النهضة، تلك المحطة المؤقتة التي لاتنام حيث الباعة على الأرصفة وبائعات القيمر والشاي مع مكياج بلدي لجذب انتباه الجندي الذي لم ير جنساً بشرياً مختلفاً لاكثر من 65 يوماً، وصباغو الأحذية البساطيل في الرابعة صباحاً !.وبائعو الملابس العسكرية والأقراص التي تضع اسمك عليها حين تموت، هذا العش المؤقت للحياة للخيبة والخذلان ودموع الأمهات وتلويحات الوداع وسكائر المفرد وليل بغداد وشحوبه وغموضه وسحره ،عش اسمه كراج النهضة تحيطه من جهاته الأربع أحياء بغداد القديمة والتي غيرت معالمها الجسور السريعة والبناء الجديد وظلال الحرب وقسوتها ،جنود الزمن او ماتبقى منهم حملونا أسرارهم ومضوا إما الى جوار ربهم أو الى غربة طويلة او غزاهم الوجع وكوابيس الأمس وشهيق الأمهات ووجعهن ورعبهن .